بعد عام من تعديلات قوانين الهيئات القضائية: ماذا تبقى من استقلال القضاء؟ (١-٢)


صدر قانون «تعديل طريقة اختيار رؤساء الهيئات القضائية» في ابريل من العام الماضي وسط اعتراضات معظم المؤسسات القضائية، ليس فقط لعصفه بواحد من أكثر أعراف القضاء استقرارًا وهو مبدأ «الأقدمية»،بشكل لم يقدم عليه أياً من الأنظمة الحاكمة في صداماتها المتكررة مع القضاء منذ أزمة مارس ١٩٥٤، ما يؤشر على أن القانون صدر ليمهد لمرحلة جديدة من العلاقة بين المؤسسات القضائية وبين الدولة، تكون أكثر تعبيراً عن موازين قوى وعن طبيعة النظام الحاكم وتركيبته الأمنية والعسكرية.

يتفق الكثير من المتابعين للشأن القضائي، ومنهم كاتب المقال، أن آلية «الأقدمية» في التعيينات القضائية سمحت تاريخياً بإضفاء استقراراً مؤسسياً لجهات القضاء التي كان يجري تعيين رؤسائها وفقاً لترتيب الأقدمية المطلقة، ما أزال أي خلافات ممكنة على رئاسة هذه الجهات التي انحصرت في شخوص أقدم أعضائها بغض النظر عن توجهاتهم، وهو ما حافظ للقضاء على استقلاله من التأثر بتبعات الصراعات السياسية.

إلا أن القانون ١٣ لسنة ٢٠١٧ صدر ليخضع التعيينات في رئاسة مؤسسات القضاء لاعتبارات سياسية وأمنية بحتة، بعد أن سلب من الجمعيات العمومية للمحاكم سلطة ترشيح رؤساء الجهات القضائية بالنص على سلطة رئيس الجمهورية في اختيار رؤساء الجهات القضائية من بين أقدم ٧ أعضاء في المحاكم حال عدم التزام هذه الجهات بإرسال قائمة بالمرشحين تضم ٣ أسماء، ما يهدم عملياً مبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليها كضمانة دستورية.

يمكن ملاحظة هذا التحول الجذري في طريقة تعيينات رؤساء المؤسسات القضائية في أول تعيينات صدرت بعد إقرار القانون، حيث جرى تخطي أقدمية المستشار يحيى الدكروري وتعيين المستشار أحمد أبو العزم رئيساً لمجلس الدولة، كما تم استبعاد المستشار أنس عمارة –أحد المستهدفين بالقانون- عن رئاسة مجلس القضاء الأعلى بسبب تواتر أنباء عن انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين، وكذا جرى استبعاد المستشار محمد ماضي أقدم أعضاء هيئة قضايا الدولة -على ما يبدو لعضويته في الهيئة الاستشارية للشئون الدستورية التي شكلها الرئيس الأسبق محمد مرسي- وتعيين المستشار حسين حمزة، فيما تم تخطي المستشارة محاسن لوقا في رئاسة النيابة الإدارية لصالح المستشارة رشيدة أنور فتح الله.

وعلى الرغم من محاولة بعض أنصار القانون التقليل من أثره بالتأكيد على دستوريته واحترامه لكافة الأعراف القضائية، إلا أن فلسفة القانون وتوقيت طرحه وطريقة التصويت عليه في مجلس النواب والتلويح بإجراءات «عقابية» كتمرير قانون لخفض سن تقاعد القضاة حال إصرار القضاة على رفض القانون، كانت تشير إلى أن المستهدف بتعديل القانون كان أكبر من مجرد استهداف أشخاص بقدر ما هو توجه أوسع «لاحتواء» القضاء، وتحييد مؤسساته سياسياً بما يسمح بتحجيم أي أدوار فاعلة له مستقبلاً.

ففي حين دعا مجلس إدارة نادي القضاة لعقد جمعية عمومية حاشدة للتعبير عن موقف القضاة من رفض القانون، أتى الرد من رئيس المجلس الأعلى للقضاء برفضه إجراء الجمعية العمومية ببهو دار القضاء العالي بحجة رفض «جهات الأمن» تأمين الجمعية، وهو الموقف الذي فسره البعض على أنه محاولة لتبييض ماء الوجه بعد فشل القضاة عملياً في الحشد، وهو ما أكده خطاب رئيس نادي القضاة وقتها الذي جاء كاشفاً إلى حد كبير عن حجم الأزمة داخل «الجماعة القضائية» عندما تساءل عن «إمكانية تغيير الواقع من خلال الجمعية العمومية في ظل غياب المساندة من مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل».

كما بعث المستشار يحيى الدكروري بخطاب إلى الرئيس السيسي يشكو تخطيه في رئاسة مجلس الدولة ويصرح بأن «المسألة أعمق من مجرد منصب» لما لهذا القانون من آثار حتمية على «استقلال المنظومة القضائية»، بعد أن وجد المستشار الدكروري نفسه دون دعم حقيقي من أعضاء المجلس بعد السماح له بالطعن على القانون أمام «المحكمة الدستورية العليا»، وهو الطعن الذي لم يُنظر حتى الآن وبات بلا جدوى بعد تقاعد المستشار الدكروري لبلوغه السن القانونية، وهي نفس الكيفية التي تم التعامل بها مع طعني المستشارين أنس عمارة ومحمد ماضي على ذات القانون.

وفي السياق، فقد مُرر القانون دون أن يُصدر وزير العدل «بياناً واحداً» على مدار أربعة أشهر لمساندة الإجماع القضائي برفض القانون، بعد أن ظلت الوزارة داعمة لمواقف القضاة الرافضة لكل محاولات تعديل قوانين السلطات القضائية التي تلت ثورة يناير ٢٠١١ بهدف «تحجيم القضاء»، والتي كان آخرها استقالة المستشار أحمد مكي من وزارة العدل في ابريل ٢٠١٣ إثر تقدم حزب «الحرية والعدالة» وقتها بمشروع قانون لتخفيض «سن تقاعد القضاة»  ١٠ أعوام بهدف الإطاحة بـ ٣٥٠٠ قاضِ.

 كما بدا واضحاً أن مجلس القضاء الأعلى قرر عدم اتخاذ رد فعل قوي تجاه القانون باستثناء الخلاف مع نادي القضاة لرفض أي إجراءات تصعيدية والتسليم «بالأمر الواقع» من خلال الاكتفاء بالطعن فقط على القانون أمام المحاكم. وبذلك، أصبح عملياً مجلس الدولة ونادي القضاة معزولين في مواجهة أنصار القانون بعد صمت باقي الجهات المخاطبة بالقانون عن اتخاذ أية ردود أفعال باستثناء حظر الحديث إعلامياً عن القانون، ولتنكشف تفاصيل واقع سياسي لا يتسامح فيه النظام الحاكم كثيراً مع هوامش الاستقلالية التي تمتع بها القضاة بعد يونيو ٢٠١٣.

ربما أمكن تفسير هذه «العُزلة» القضائية في تحول موقف قطاع عريض من القوى السياسية والحركات الاجتماعية –التي لطالما شكلت ظهيراً شعبياً وسياسياً للقضاة في صداماتهم مع السلطة- بالنظر إلى مواقف هذه المؤسسة في السنوات الأخيرة باعتبارها ضلعاً في منظومة الحكم التي تشكلت إثر بيان ٣ يوليو ٢٠١٣،  وهو ما لاقى أصداءً واسعة لدى دوائر السُلطة بعد أن بات لنادي القضاة كلمة مسموعة في تعيينات كافة وزراء العدل بعد ٣٠ يونيو، وبات تعيين القضاة في مناصب تنفيذية قيادية فيما بات يعرف بـ «الكوتة القضائية» عُرفاً حكومياً رسمياً، بالإضافة لكافة الامتيازات المالية التي أصبح يتمتع بها القضاة مؤخراً.

إلا أن ما فات على القضاة تداركه هو هشاشة تحالفهم مع النظام الحاكم وحجم فعاليتهم وتأثيرهم الحقيقي بالنظر لطبيعة النظام الحالي بتركيبته الأمنية والعسكرية التي تربط تحقق «العدالة الناجزة» بتمرير تشريعات استثنائية لم تكن لتسمح بأن تتحول المحاكم لساحات تُحسم فيها سرديات قضايا الرأي العام بعد ثورة يناير ٢٠١١.

يبدو أن الرسالة من وراء إقرار القانون بهذه الكيفية هي بوضوح أن المطلوب هو ترؤس شخصيات مهادنة للمؤسسات القضائية، وهو ما يظهر من ردة فعل المؤسسات القضائية التي انبرت للتعبير عن تأييدها لسياسات النظام على مدار السنة الماضية منذ إقرار القانون، بدءًا بتصريح نائب رئيس المحكمة الدستورية بأن المحكمة «تاريخها ناصع ولا علاقة له بالسياسة» أثناء أحد جلسات نظر قضية «تيران وصنافير» في رسالة شديدة الدلالة، وكذا مشاركة رئيس مجلس الدولة في أحد الفعاليات الانتخابية للرئيس السيسي في سابقة تاريخية، وانتهاءً باستخدام النائب العام للفظ «قوى الشر» في إحدى بياناته بما له من مدلول سياسي واضح.

إذاً، خرج النظام منتصراً من معركة القانون ١٣ لسنة ٢٠١٧، فالمؤسسات القضائية تحقق لها الاستقرار الذي كانت تتمناه السٌلطة باستمرار ٣ من رؤساء هذه المؤسسات في مناصبهم، والأهم بأن ضمن ولاء رؤساء هذه المؤسسات القضائية للجهات التنفيذية القائمة على تعيينها، وهو ما يمكن ملاحظته في تحول سياسات معظم هذه المؤسسات للتركيز أكثر على نزع أي ملامح سياسية لعملها والاكتفاء بدعم السياسة العامة للدولة بتسريع التقاضي والفصل في القضايا حتى ولو على حساب مصالح المتقاضين. كذلك، لا يبدو في الأفق ما يشي بتغير الواقع الحالي كثيراً في مصلحة القضاء الذي باتت ملامح استقلاله أبعد ما تكون عن التحقٌق أكثر من أي وقت مضى.

مصطفى شعت، باحث قانوني في وحدة أبحاث القانون والمجتمع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ومُحاضر.

: اقرأ التالي

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…