إحداثُ التغييرِ: حلول مبتكرة لأزمة الوقود في لبنان

أدت الضغوطُ الماليةُ الشديدةُ التي تُعاني منها الأسرُ اللبنانيةُ إلى حدوث تحوُّل كبير في طريقة تنقُّل الأفراد. ونظرًا لخطورة الوضع، فإنه من السهل توقُّعُ استمرارِ هذه التغيُّرات على المدى القريب.


.here Read this article in English

أدت الضغوطُ الماليةُ الشديدةُ التي تُعاني منها الأسرُ اللبنانيةُ إلى حدوث تحوُّل كبير في طريقة تنقُّل الأفراد. ونظرًا لخطورة الوضع، فإنه من السهل توقُّعُ استمرارِ هذه التغيُّرات على المدى القريب.

حتى انتفاضةِ أكتوبر 2019، كانت الغالبيَّةُ العظمَى من الأسرِ اللبنانيةِ تمتلكُ عدةَ سياراتٍ. ومع عدمِ وجود المزيدِ من خطوطِ الترام أو القطاراتِ، كانت بدائلُ القيادةِ وامتلاكُ سيارةٍ محدودةً بالفعلِ. لا يعملُ في الوقتِ الحالي سوى عددٌ قليلٌ من خطوطِ الحافلاتِ وفقًا لجدولٍ زمنيٍّ مُحدَّدٍ وموثوقٍ، مع عدمِ توفُّرِ الحافلاتِ الصغيرةِ (سيارات الميني فان)، سواء كانت هذه الحافلاتُ تسيرُ عبر بيروت مثل الحافلةِ الشهيرةِ “رقم 4” أو الحافلات التي تسيرُ لمسافاتٍ طويلةٍ، وظلت أسعارُها منخفضةً بشكلٍ لا يُقارَن. ولذلك يميلُ الركابُ ذوو الدخلِ المنخفضِ والعمالُ المهاجرونَ إلى استخدامِ تلك الحافلات وسياراتِ الأجرةِ المشتَرَكة والحافلاتِ البيضاء ذاتَ الثلاثينَ مقعدًا، إذ ظلتْ تكلفةُ السيارةِ أو السياراتِ الأجرة باهظةَ الثمن بالنسبةِ لهم.

وكان ركوبُ الدراجاتِ بمثابةِ إحدى الرياضاتِ التي تُمارَسُ ويستخدمُها حفنةٌ من السكانِ المحليين المثاليين أو الأجانب باعتبارِها وسيلةَ نقلٍ. 

أثرُ الأزمةِ على تنقُّلِ الأفرادِ

غرقت البلادُ في واحدةٍ من أسوأ الأزماتِ الاقتصاديَّةِ في العالمِ خلالَ العامين الماضيَيْن. وكان ردُّ فعلِ الحكومة هو رفعَ الدعم تدريجيًّا عنِ البنزين وزيتِ الوقودِ (للمولِّدات التي تنتجُ الكهرباء) وكذلك المواد الغذائيَّة المستورَدَة. وكان لهذا النهجِ آثارٌ مدمرةٌ على الأسرِ اللبنانيَّةِ. وفقدتِ الليرةُ اللبنانيةُ ما يقرب من 95 في المئة من قيمتِها منذُ عامِ 2019، ما دفعَ الأسرَ الفقيرةَ التي تُكافِحُ بالفعلِ لتوفيرِ الغذاءِ والكهرباءِ والوقودِ إلى الوقوعِ في براثنِ الفقرِ. ومعَ وقفِ دعمِ الوقودِ، أصبحتْ تكلفةُ ملءِ السيارةِ تتعدَّى راتبَ شهر وفقًا لقيمةِ الحدِّ الأدنى للأجور.

لقد أثَّرتْ هذه التطوراتُ تأثيرًا كبيرًا على طرقِ تنقُّلِ اللبنانيين وتحرُّكِهم. وتمتلئُ الشوارعُ بأعدادٍ متزايدةٍ من مركبات ذات العجلتَيْن، ويُستخدَم بعضُها أيضًا لنقلِ البضائعِ. وأصبح من الشائع مشاهدة الدراجاتِ الناريةِ التي تنقل حمولاتٍ ضخمةً، مثل الأكياسِ المملوءةِ بمواد مُجمعةٍ قابلةٍ لإعادةِ التدوير.

تتغيرُ كذلك حصةُ وسائلِ النقلِ، في حين استُبدلتْ بعضُ السياراتِ بالدراجاتِ البخاريةِ والدراجاتِ الناريةِ، كان التغييرُ الأكبرُ هو زيادةَ رحلاتِ الحافلاتِ والدرَّاجاتِ وانتشارَ ما يُسمَّى بالتوك توك، في جميعِ أنحاءِ البلادِ، ولا سيما حلبا، عاصمة عكار.

مع الزيادةِ الهائلةِ في أسعار الوقود وارتفاعِ تكاليفِ المعيشةِ، أصبحَ امتلاكُ سيارةٍ عبئًا على العديدِ منَ اللبنانيين، بعد أن كانتْ رمزًا للوضعِ والمكانةِ الاجتماعية.

منَ الجديرِ بالذكرِ أنَّ هذا الوضعَ قد تسببَ في أحيانٍ كثيرةٍ في ظهورِ آثارٍ مأساويةٍ مثل الاشتباكاتِ التي تحدثُ في محطاتِ البنزين وانفجارِ خزَّانِ وقودٍ في بيروت عام 2020 وفي قريةِ التليل الشماليةِ في أغسطس 2021. ومع زيادةِ مثلِ هذه الحوادثِ، ظهرَ عددٌ منَ المبادراتِ الخاصةِ استجابةً للأزمةِ، لها طابعٌ رسميٌّ أو تشجِّعُ على الاتجاهِ نحو الحياةِ العضويةِ مثل The Chain Effect وBus Map Project، التي تُبنَى على الحراك والأنشطةِ السابقةِ. وأُطلق تطبيق “بلا بنزين” مؤخرًا الذي يهدفُ إلى تعزيزِ مشاركةِ السياراتِ، وربطِ السائقينَ والركابِ بمنصَّةٍ رقميَّةٍ. وابتكرَ أفرادٌ مثل أحمد الصفدي في صيدا سيارةً تعملُ بالطاقةِ الشمسيَّةِ، بينما استجابَ روادُ الأعمالِ والشركاتُ الناشئةِ أيضًا لأزمةِ النقلِ. ومن الأمثلةِ الأخرى الحديثةِ والشهيرةِ نظامُ Wave طويلُ الأجلِ الذي يوفِّرُ تأجيرَ الدراجاتِ بطريقةٍ إلكترونيةٍ ويعملُ بنجاحٍ في بيروت منذُ عامِ 2020.

زيادةُ وسائلِ النقلِ البديلةِ في طرابلس

استجابةً للحاجةِ الملحَّة لتوفيرِ وسائلِ نقلٍ بأسعارٍ معقولة يمكنُ الاعتمادُ عليها، شهدتْ طرابلس، وهي ثاني أكبرِ مدينةٍ في لبنان، زيادةً في استخدامِ وسائلَ نقلٍ بديلةٍ وأرخص تكلفةً. فمثلًا، تربط الحافلةُ Connex للمسافاتِ الطويلةِ بين طرابلس وبيروت، وهي الوحيدةُ من نوعِها في البلادِ، وهي مؤسَّسةٌ أُنشِئَت لخدمةِ سكانِ طرابلس، ولكنها تضرَّرت بشدةٍ جراءَ الجائحةِ ومن ثمَّ أزمةِ الوقودِ.

على الرغمِ من ارتفاعِ أسعارِ التذاكر، من 6000 ليرةٍ لبنانيةٍ (4 دولارات) في 2018 إلى 100000 ليرةٍ لبنانيةٍ (2.56 دولار في السوقِ السوداء) هذا الشهر، تمكَّنت الحافلةُ من مواصلةِ عملياتِها وزيادةِ عددِ رحلاتها اليوميةِ. وعادةً ما تكون ممتلئةً إلى حدٍّ ما، ويستخدمُها الطلابُ وكبارُ السنِّ الذين يزورونَ أسرَهم والسياحُ وسكانُ طرابلس الذين يعملونَ في بيروت، وهي تغادرُ في الموعدِ المحدَّدِ، ولها مسارٌ محدَّدٌ لركوبِ الركابِ ونزولِهم وهي بمثابةِ مكتبِ بريدٍ، ترسلُ الأدويةَ أو الطرودَ الغذائيةَ أو الوصلات المنسية بين المركزَيْن.

كما أُطلقتْ مبادرةُ تريبولاين في بدايةِ 2022 وهو خطُّ حافلاتٍ يربطُ طرابلس بمنطقةِ الكورة. وعلى الرغمِ منْ تواترِ الرحلاتِ من وإلى طرابلس والكورةِ، يمثلُ هذا الخطُّ فعليًّا أولَ خطٍّ من نوعِه يربطُ بينَ طرابلس والمنطقةِ. وينطلقُ من ميدانِ نور في طرابلس بجوارِ Connex. وقد صرَّح الشريكُ المؤسِّسُ وائل زمرلي قائلًا: “في غضونِ ثلاثة أشهر، زاد الضغطُ على خدماتِنا واضطُرِرْنا إلى إضافةِ حافلةٍ جديدةٍ وزيادةِ عددِ الرحلاتِ لتلبيةِ الطلبِ، ويدرسُ فريقُ مبادرة تريبولين حاليًا إضافةَ خطوطٍ جديدةٍ وفقًا للطلباتِ العديدةِ التي تلقَّيْناها من مستخدِمينا”.

أضافَ وائل زمرلي: “التحدِّي الأكبرُ الذي واجَهْناه حتى الآن هو تثقيفُ الركابِ حولَ هذا النوعِ من وسائلِ النقلِ، إذ لا يزالُ الركابُ معتادينَ على خدمة سياراتِ الأجرةِ المشتَرَكةِ الكلاسيكيَّةِ؛ حيثُ يمكنُهم التوقُّفُ في أي مكانٍ والنزولُ في الوجهةِ المقصودةِ. وأصبح هذا النوعُ من الخدمةِ مكلِّفًا للغايةِ في الوقتِ الحاضرِ، وهذا من شأنِه أن يساعدَنا في إقناعِ الركابِ بأنَّ خدمتَنا هي أفضلُ خيارٍ لرحلةٍ ميسورةِ التكلفةِ. ومن بينِ التحدياتِ الرئيسيةِ الأخرى هي جمعُ الأموالِ لتغطيةِ جزءٍ من النفقاتِ لإبقاءِ الأجرةِ منخفضةً قدرَالإمكانِ، وكذلك معارضةُ سياراتِ الأجرة”.

التوصيلُ بالدرَّاجاتِ الهوائيَّةِ في طرابلس

أخذَ الوصمُ السلبيُّ المرتبطُ بركوبِ حافلةٍ في لبنان في التغيُّرِ عبى نحو بطيئ. وينطبقُ الأمرُ نفسُه على ركوبِ الدراجاتِ. ويؤكدُ نذير حلواني مؤسِّس شركة واصل لخدماتِ التوصيلِ بالدرَّاجاتِ في طرابلس: “لقد تضاعفتِ الأرقامُ الآن، لا سيما في أوقاتِ الذروةِ، وتحديدا في الصباحِ والمساءِ، بالإضافةِ إلى وقتِ الظهيرةِ، إذْ يمكنُنا رصدُ ما لا يقلُّ عن 30 دراجةً كل نصف ساعة”.

كما يمكنُ رؤيةُ النساءِ يركبنَ دراجاتٍ في تحدٍّ للمضايقاتِ المتكررةِ بعد أن كانَ ركوبُهن على عجلتَيْن مشهدًا نادرًا. ويستخدمُ عددٌ منهنَّ دراجاتٍ ثلاثيةَ، ما يوفرُ مزيدًا من الرؤيةِ والاستقرارِ ويسمحُ بنقلِ الأدواتِ الشخصيةِ أو البقالةِ في الخلفِ.

على عكسِ بيروت ذات التلال، وصعوبةِ حركةِ المرورِ بها، ما يخيفُ العديدَ من ركابِ الدراجاتِ المحتَمَلين، نجدُ أن وسطَ طرابلس والمدينةَ الجديدةَ وحيَّ الميناء لها طابعٌ مسطَّحٌ. ونظرًا لانخفاضِ كثافةِ السياراتِ، فإن المدينةَ تُفسِح المجالَ تمامًا لركوبِ الدراجاتِ.

بدأتْ شركة واصل عملياتِها في نوفمبر 2021 وتمكنتْ من مواجهةِ المنافسةِ الشديدةِ في كلِّ مكانٍ من خدماتِ التوصيلِ باستخدامِ الدراجاتِ البخاريةِ، وهي توظفُ حاليًا ستةً من الشبابِ وتتطورُ على نحوٍ مستمرٍّ.

تأخذُ الرحلةُ الأولى صباحَ يوم الاثنين يوسف الحلبي، سائق توصيل يبلغُ من العمرِ 21 عامًا، ويركبُ الدراجةَ الإلكترونيةَ الوحيدةَ لشركة واصل صعودًا إلى أبو سمرة، فوق طرابلس. وبعد ذلك، يذهبُ إلى متجرِ نسيجٍ لجمعِ عيناتٍ من القماشِ طلبَها متجرُ ملابسَ في المدينةِ الجديدةِ. وينتظرُ رجلانِ بالخارجِ عند مكانِ الركوبِ، يستفسرانِ عن تكلفةِ دراجاتِ التوصيلِ ومن أينَ يمكنُ شراءُ الدراجاتِ. ويجري البحثُ عنِ الدراجاتِ على نحوٍ متزايدٍ وتُستَخدَم كثيرًا لمزاياها الاقتصاديةِ الواضحةِ.

إلى جانبِ المساهمةِ في تقليلِ الازدحامِ في الشوارعِ وخفضِ الضوضاءِ والتلوثِ وتغييرِ صورةِ خدماتِ التوصيلِ وكيفَية عمل موظَّفُيها وطرق تقديم خدماتِها، فقد خلقتْ شركةُ واصل فرصَ عملٍ للشبابِ. ويوضِّحُ المؤسسُ: “لقد كان هذا جانبًا اجتماعيًّا رئيسًيا لواصل؛ إذ تأخذُ مساهمةُ المستثمرينَ شكلَ المساهمةِ الماليةِ لطلابِ الجامعاتِ الذين اضطُرُّوا إلى تعليقِ تعليمِهم لأسبابٍ مثلَ زيادةِ الرسومِ الدراسيةِ وأحيانًا زيادةِ رسومِ الانتقالاتِ”.

وأبعدُ مسافةِ توصيلٍ تولاها حلبي كان الانتقال إلى إهدن، على ارتفاعِ 20 كيلومترًا من طرابلس. ووفقًا لحلواني، مؤسِّس واصل، فإنَّ الشركةَ الناشئةَ تتلقَّى طلبات من خارجِ طرابلس، لا سيما المناطق المرتفعة الأقل ثراءً مثل القبة والبداوي وأبو سمرة، وأيضًا عبر الكورة وشكا، على بعد 18 كيلومترًا من الساحلِ، يعني ذلك أنَّ خدماتِ التوصيلِ القائمةَ على الدراجاتِ أرخصُ من استخدامِ النقلِ الميكانيكيّ.

يبقى أنْ نرى كيفَ ستتقدَّمُ هذه التطوراتُ وما إذا كانتْ وسائلُ النقلِ التي تُعتَبَرُ مستدامةً ستفرضُ نفسَها على المدى الطويل في طرابلس وبقيةِ لبنان.

في الوقتِ الحالي، أجبرتْ تكلفةُ المعيشةِ المرتفعةُ في لبنان أصحابَ السياراتِ والركابَ على إعادةِ النظرِ باستمرارٍ في وسائلِ النقلِ الخاصةِ بهم. ولا يَسَعُ المرءَ إلا أن يأملَ في أن يتَّحد المزيدُ من روادِ الأعمالِ ومشغِّلي النقلِ وأصحابِ المصلحةِ وأعضاءِ المجتمعِ المدنيِّ معًا، لإيجادِ حلولٍ شاملةٍ وخطةِ نقلٍ متكاملةٍ طالَ انتظارُها. وهذا من شأنِه أنْ يُقللَ من نفقاتِ المعيشةِ، ويمكِّنَ من تحفيزِ التنميةِ التي تشتدُّ الحاجةُ إليها، إلى جانبِ تعزيزِ مستقبلٍ مليءٍ بالمساحاتِ الخضراءِ والصحيَّةِ، في المناطق الحضريةِ والريفيةِ على حدٍّ سواء.

 

ناتالي روزا بوشر، كاتبةٌ وباحثةٌ نشرتْ مقالاتٍ عدةً لوسائلَ إعلامٍ في جنوبِ أفريقيا ولبنان وأماكنَ أخرى دوليَّةٍ.

: اقرأ التالي

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…