الإجراءات القانونيَّة العادلة و«كوفيد-19» في الشرق الأوسط


أدَّى تفشِّي مرض «كوفيد-19» إلى اتِّخاذ الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تدابير احترازية سريعة وغير مسبوقة. وبحكم هذه الظروف الاستثنائية أعلنت العديد مِن الدول حالة الطوارئ الصحية، ممَّا بات يُؤثِّر على حقوق المواطنين مع وجود هذه الإجراءات.

مِن الجدير بالذِّكر أنَّ لتلك التدابير وقعٌ خطيرٌ على سير الإجراءات القانونية، لا سيّما الحق بتوكيل المحامين و الحق في المثول أمام القضاء وجلسات المُحاكمة العادلة. فقد منعت السُّلطات المُحامين في أنحاء عديدة مِن الاجتماع بموكليهم وظلَّ الأفراد رهن الاعتقال بالرغم من التوقف عن نظر جلسات الحبس الاحتياطي أو تأجيلها إلى أجلٍ بعيدٍ، كما قلَّلت المحاكم أيضًا مِن سير عملها إلى درجةٍ كبيرةٍ. وبالرغم من أنَّ بعض البلدان اتَّخذت إجراءات للتصدِّي لتلك المشاكل فلا تزال بعض الأسئلة المُهمَّة على المدى البعيد مطروحة فيما يخص الإجراءات القانونية.

مع استمرار الدول في التعامُل مع تفشّي جائحة «كورونا»، أصبح مِن المُهمِّ للغاية أنْ تُدرك الحكومات الالتزامات القانونية المحليَّة والدوليَّة التي ما زالت تقع على عاتقها في هذه الظروف.

توكيل المحامين و سير القضايا بالمحاكم

عندما علَّقت البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا زيارات السجون في بداية تفشِّي مرض «كوفيد-19»، كان لذلك تأثير على قُدرة المُحامين وحقَّهم في الاجتماع بموكّليهم، ممَّا حرم المُحتجزين مِن القُدرة على استشارة محاميهم لإعداد الدفاع القانوني وطلب العون حال وجود انتهاكاتٍ أثناء الاحتجاز. ففي مصر على سبيل المثال ينطبق تعليق زيارات السجون المُطبَّق في 10 مارس على أفراد الأسرة والمُحامين. وبالمثل منعت الضَّوابط التي فرضتها إسرائيل في 15 مارس السُّجناء الفلسطينيين مِن مقابلة محاميهم ولم تسمح إلا بإجراء مكالمات هاتفية بين المُحامين والموكّلين قبل جلسات المحكمة المُقرَّرة.

ضمن استجابتها الفوريَّةٍ للجائحة، أبطأت الغالبية العظمى مِن الدول بشكلٍ ملحوظٍ سيْر عمل المحاكم وجلسات الاستماع وأوقفتها تمامًا في بعض الحالات النَّادرة. في إيران على سبيل المثال، استمرّ النَّظر في القضايا الجنائيَّة والمدنيَّة المُعلَّقة، مع إرجاء المحاكمات الجديدة وإعطاء الأولويَّة للقضايا المُتعلِّقة بجرائم العنف والفساد وجرائم الأمن العام والجرائم ذات العلاقة بمرض «كوفيد-19». أما في ليبيا فقد أمرت الحكومة بإغلاق المحاكم لمدة شهرٍ ثمَّ تمديد المدَّة لشهرٍ آخر أضافي. ومع ذلك سمحت الحكومة بشكلٍ محدودٍ باستمرار النظر في «القضايا المستعجلة» دون تعريف أو تحديد لنوعيَّة هذه القضايا. على صعيد آخر، أوقفت مصر سيْر عمل المحاكم، لا سيما تجديد الحبس الاحتياطي، لِمَا يقرب مِن شهرين، ممَّا أدَّى إلى الاحتجاز غير القانوني حسب ما يقتضيه القانون المحلي والتسبُّب في انتهاكات واسعة النطاق للإجراءات القانونيه . وعندما استأنفت المحاكم عملها قامت بمراجعة آلاف حالات الاعتقال نظريًّا في ظلّ غياب المُحامين والعجز عن إحضار المُتَّهمين إلى المحكمة.

استمرَّت طوال هذا الوقت وفي جميع أنحاء المنطقة الاعتقالات التعسُّفية والمُمارسات التي تنتهك الإجراءات القانونيَّة بشكلٍ صارخٍ ولا سيما الاختفاء القسري، ممَّا وضع ضغوطًا إضافيةً على المحاكم التي تعاني في الأساس من تراكم القضايا أو توقّف عملها وأربك سير العدالة بالنِّسبة إلى جميع المُحتجزين. وقد أدَّت هذه الممارسات إلى زيادة ازدحام السجون ممَّا هدَّد بأزمة صحيَّة عامة حادَّة، ليس بالنسبة إلى المُحتجزين ومسؤولي السجون فحسب بل إلى الشعب ٍ أيضًا.

بعد توقف المحاكمات او تأجيلها بشكل مبدأي ، أعلنت بعض دول المنطقة أنَّها ستتحول إلى جلسات الاستماع الافتراضيَّة مِن أجل الامتثال لإجراءات التَّباعُد الاجتماعي. فمثلًا بدأت المحاكم الجنائية في البحرين النَّظر في تجديد الحبس الاحتياطي عن بعد، كما أصدرت السُّلطات التونسية في بداية مايو قرارًا يسمح بالمحاكمة عن بُعدٍ مِن خلال استخدام وسائل التواصُل السَّمعية والبصريَّة في أوقات تفشي الأمراض المُعدية. أما في دولة الإمارات العربية المُتّحدة فقد بدأت الدَّوائر القضائية داخل أنظمة المحاكم الجنائية والتجارية في أبو ظبي بإجراء المحاكمات عن بُعدٍ، كما أصبحت تُعقد في دبي جلسات الاستماع في الأمور العاجلة والقضايا الجنائية والاستئناف عن بُعدٍ أيضًا.

مِن المُبكِّر للغاية تقييم سير عمل المحاكمات عن بُعدٍ مِن ناحية الإجراءات القانونيَّة إذ لا يتوفَّر سوى القليل مِن التقارير حول مدى انتشار مثل هذه المحاكمات خصوصاً فيما يتعلق بأنواع القضايا التي تتناولها والمواقع الجغرافيَّة التي تحصل فيها وفئات المُتَّهمين التي تمثل أمامها، عدا فيما إذا كان قرار عقد المحاكمات عن بُعدٍ يحدُث وفقًا لمبادئ توجيهيَّة خالية مِن التَّمييز وتتمتع بالشفافيَّة اللازمة. وفضلًا عن ذلك، لم يتَّضح بعدُ ما إذا كانت هذه المحاكمات تُجرى بطريقةٍ تُساعد على التَّواصُل والتَّشاوُر المبنيّ على مبدأ السريَّة بين المحامين والموكِّلين قبل الجلسات وأثناءها وبعدها، وذلك بصفة كون هذين الطرفين عُنصرَيْن أساسيَّيْن في تطبيق حقّ الاستعانة بمُحامٍ. فمثلًا يستطيع المُحامون أثناء جلسات المحاكمة الشخصيَّة أن يطلبوا وقف الإجراءات للتشاوُر مع موكّليهم، وليس واضحًا ما إذا كانت هذه التكنولوجيا بإمكانها حماية مسار العمل بهذه الطريقة أو بطُرقٍ أخرى.

المعاييرُ الدوليَّةُ والمُمارسات القانونية الفُضلى

مِن النَّاحية النظريَّة، تحمي معظم القوانين والدَّساتير المحليَّة في المنطقة الحقّ في التمتُّع بالإجراءات القانونية اللازمة خاصَّة الحق في الاستعانة بمحامٍ و المثول امام القضاء والحق في المُحاكمة العادلة. ومع ذلك، تذرَّعت بعض الدول بالجائحة لتبرير القيود المفروضة على الإجراءات القانونيَّة الواجبة والمُتَّبعة ممَّا ينتهك بوضوحٍ القانون المحلي والدولي.

على الرَّغم مِن أنَّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة (ICCPR) يسمح للدول باعتماد قيود استثنائية ومؤقَّتة بشأن حقوق مُعيَّنة «في أوقات الطَّوارئ العامَّة التي تُهدِّد حياة الأمَّة»، إلّا أنّ هذه القيود يجب أن يكون منصوصاً عليها في القانون وأن تكون ضروريةً وملائمةً وخاليةً مِن التَّمييز. وقد أقرَّت لجنة حقوق الإنسان التي تفسّر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة «أنّ مبدأَي المشروعيَّة وسيادة القانون يتبعان احترام المُتطلَّبات الأساسية للمحاكمة العادلة في أثناء حالة الطوارئ.» كما أنّ بعض الحقوق لا يمكن تقييدها حتَّى في حالة الطوارئ كحقّ الحياة وحظر التعذيب ومبدأ الشرعيّة في القانون الجنائي.

إن أخدنا بعين الاعتبار الوضع اللوجيستي المعقّد في الموازنة بين السلامة العامَّة واحترام حقوق المواطن أثناء الجائحة، نرى أنه بإمكان حكومات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اتباع وتطبيق عددٍ مِن الالتزامات القانونيَّة الدوليَّة والمُمارسات القانونية الفُضلى لضمان الحقوق في الإجراءات القانونيَّة الواجبة.

أولًا، يجب على الدّول أنْ تضمن استمراريَّة تمتُّع الأشخاص المُحتجزين بحقّ الاستعانة بمحاميهم في الوقت المُناسب والكافي وفي إطارٍ مِن السِّرِّيَّة حتى مع إلغاء الزيارات الشخصيَّة. وتنصّ التوجيهات المُؤقَّتة لمنظَّمة الصحَّة العالميَّة (WHO) والمفوضية السَّامية لحقوق الإنسان (OHCHR) بشأن جائحة «كوفيد-19» على ضرورة «الحفاظ على قُدرة (المُحتجزين) على مقابلة مستشارين قانونيين، ويجب على سُلطات السجن أنْ تكفل للمُحامين القدرة على التحدُّث مع موكليهم في إطارٍ مِن السِّريَّة.» وتُضيف المنظَّمة العالميَّة لمناهضة التَّعذيب (OMCT) أنّه «يجب أن تسمح سُلطات السِّجن بالاجتماعات المرئية الآمنة والوسائل الأخرى لتمكين المُحامين مِن التَّواصُل مع موكليهم باعتبار ذلك بديلًا رئيسيًّا للزيارات الشخصيَّة…ويجب أن يكون التواصُل خالياً من القيود وقابلاً للتكرار.» ويجب أن تكفل هذه الوسائل البديلة الحقّ في التحدُّث بين المُحامين وموكّليهم في إطارٍ مِن السِّرِّيَّة لدى تواصلهم مع بعضهم البعض.

ثانيًا، لا يُمكن للدول إلغاء الحقّ في المثول أمام القضاء والمحاكمة العادلة. وعلى الرغم مِن أنَّ المنظَّمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT) تُقرّ بأنَّه «يُمكن إجراء تعديلاتٍ محدودةٍ وذات إطار زمني مقيّد ومتناسبة مع عمل المحاكم وجدولة جلسات الاستماع» فإنَّها تؤكّد أنَّ الخدمات القضائيَّة «ضرورية للغاية حتَّى في أثناء حدوث جائحة.» ولا يُمكن للدول أن تُبقِي الشَّخص المُحتجَز رهن الاعتقال ما لم تتم مراجعة أسباب احتجازه بشكلٍ سويٍّ ومُنتظمٍ. وعلى الرَّغم مِن أنَّ تفعيل جلسات الاستماع عن بُعدٍ للأشخاص المُحتجزين وغير المُحتجزين هو استخدام إيجابي للتكنولوجيا، يجب على الدول أنْ تضمن استمرار احترام المُتطلَّبات الأساسيَّة لضمانات المحاكمة العادلة حتَّى في هذه الظُّروف الجديدة.

يجب على الدول أنْ تضمن أن هيئات العدالة و التي تُعدّ الركيزة الأساسيَّة لأنظمة الحُكم الفعَّالة بامكانها الاستمرار في العمل خاصَّة في خضم الجائحة سواء مِن خلال جلسات الاستماع الافتراضيّة أو جدولة المواعيد المُتباعدة أو توفير الوسائل الوقائية للمقابلات المحدودة التي تجري وجهًا لوجه.

 

شُكرٌ خاصٌّ للسيدة إيشاني تشاندرا المُتدرِّبة في القانون والسياسة لدى معهد التحرير لسياسات الشَّرق الأوسط (TIMEP) على دعمها البحثي.

: اقرأ التالي

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…