مناطق غير آمنة


نشأ صندوق تطوير المناطق العشوائية بعد قرار رئاسي عام 2008، ويعد الصندوق أحدث المؤسسات التي انضمت حديثاً وتتصدر جهود مكافحة «المناطق العشوائية». ويعمل الصندوق من خلال آلية تصنيف المناطق التي يعمل عليها بحسب نوعيتها إلى مناطق «غير مخططة» ومناطق «غير آمنة» وتصنف الأخيرة إلى أربع تصنيفات تتراوح في خطورتها بين خطورة على السكان بسبب العوامل المحيطة كالعوامل البيئية والجيولوجية (الدرجة الأولى)، مساكن غير ملائمة أو مناطق غير ملائمة للبناء (الدرجة الثانية)، مناطق تقع في مناطق تلوث صناعي أو تحت خطوط الضغط العالي أو تفتقر لمياه الشرب (الدرجة الثالثة)، وتنتهي (بالدرجة الرابعة) والتي يصنف تحتها البناء على أراضي الدولة أو الأوقاف والتي قام سكانها بالإنشاء عليها.

يعطي الصندوق الأولوية للمناطق ذات الخطر على حياة ساكنيها كالدرجة الأولى (كمنطقة الدويقة) فوق الدرجات الأخرى، ودائماً ما تكون الأولوية في هذه الحالة هي نقل السكان إلى مناطق آمنة. وبحسب استراتيجية الصندوق فإن قرارات التهجير تقتصر على حالات محددة، وتظل الأولوية لتطوير المنطقة وبقاء سكانها, ومن خلال آليات «إعادة التسكين» يوضح الصندوق بأن هذه الآليات تضمن حق المنتفعين منها في مسكن آمن ورفع لوضعهم الإقتصادي في مقارنة بالمناطق التي قدموا منها.

في مدينة القاهرة، بالتحديد، قام الصندوق بعدة مشاريع لحصر وتصنيف العديد من المناطق لإقرار خطة التدخل بها، ومن خلال العمل مع عدد من الأجهزة المحلية ووزارة الإسكان، يقوم الصندوق بحسب استراتيجيته «بتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية وضمان حق المواطن في الحصول على مسكن آمن؛ مع تحسين الأوضاع المعيشية والإقتصادية»، إلا أن هذه التدخلات أثبتت تأثيرها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي لسكان المناطق الغير آمنة بالسلب، حيث انحصرت معظم تدخلات الصندوق في نطاق مدينة القاهرة، وتحديدا في مناطق وسط البلد والقاهرة القديمة، في الإخلاء والتهجير القسري لصالح خطط تتمحور حول قيمة الأرض وأهميتها، بدلاً من توفير بدائل أو العمل بشكل فعَال على بدائل تضمن للسكان حقهم -كأولوية- والمحافظة على أوضاعهم المعيشية الاجتماعية والاقتصادية في نطاقهم اليومي.

تبدأ الوحدة المتخصصة بتطوير العشوائيات في المحافظة بالتواصل مع الحي لعمل حصر وتصنيف للمناطق بمختلف الدرجات, وعادة ما تصنف المنطقة حسب نسبة الوحدات التي تحتويها وغير مطابقة للمعاير السكن الملائم, فإذا احتوت المنطقة على أكثر من 50% من المباني غير الملائمة تصنف كمنطقة من (الدرجة الثانية). فمثلاً، مثلث ماسبيرو وهي المنطقة التي قام الصندوق بالعمل عليها مؤخراً وانتهى التدخل فيها بالتهجير القسري لمعظم سكانها تصنف من مناطق الدرجة الثانية. فبحسب الباحث العمراني أحمد زعزع، فإنه خلال المدة الزمنية التي عملت فيها ليلى اسكندر رئيسة لوزارة التطوير الحضاري والعشوائيات -تحول الصندوق في هذه الفترة إلى وزارة امتدت من يوليو 2014 وحتى أغسطس 2015- بالتعاون مع مشروع ماسبيرو التشاركي وسكان المثلث. في إطار إيجاد حل بغرض بقاء السكان الذين أصروا على مطلب «التطوير». وحتى نهاية عمل الوزيرة، كان «التطوير» هو الحل المسيطر على خطة عمل الصندوق في المنطقة، إلا أنه بعد نهاية الوزارة وعودة الصندوق تحت وزارة الإسكان، أصبحت خطة «التطوير» والتي لطالما أشارت إلى مشاركة السكان في حل بديل عن التهجير، أصبحت ذات معنى استثماري بحت، فهي تطوير لإستخدامات «أرض المثلث» لتصبح منطقة تجارية، استثمارية وترفيهية سكنية، وعلى إثر هذه الرؤية تلقى السكان ثلاثة اختيارات وهي التعويض أوشراء وحدات في المشروع الجديد والممول من القطاع الخاص أو الانتقال لحي الأسمرات والذي أنشا حديثاً ضمن خطة الدولة لمحاربة العشوائيات.

توضح آلية تدخل الصندوق في مثلث ماسبيرو، المواردي وعرب اليسار وغيرها من المناطق في محيط وسط مدينة القاهرة والقاهرة القديمة، عدد من النقاط الهامة في الطريقة التي يتعامل بها الصندوق مع هذه المناطق، فمثلاً يضع التصنيف هذه المناطق بما فيها منقطة المثلث بالمقارنة مع عدد من المناطق الأخرى والتي تتكون من بيوت منشأة من الصفيح أو الخيام القماشية مثل منطقة «عشش المهاجرين» في حي المرج، وهو الأمر الغريب من حيث التصنيف خصوصاً أن هذه المناطق تفتقر أيضاً إلى البنى التحتية مثل الطرق ومنظومة جمع القمامة والصرف ومياه الشرب النقية، وهي الخدمات المتوفرة في عديد من المناطق المصنفة تحت الدرجة الثانية والتي انتهى المطاف بمعظمها للتهجير الدائم. وتمثل حالة مثلث ماسبيرو نقطة هامة في إطار خطة الصندوق بالإلتزام بتطوير المنطقة، حيث اختار الصندوق مع الأجهزة المحلية التابعة للمحافظة وأيضاً عدد من الأجهزة المركزية أن يتم تفريغ المنطقة من السكان واضعًا الأولوية لإعادة تقسيم المنطقة بين المستثمرين في مشروع المثلث.

في نفس درجة التصنيف تقع منطقتي المواردي ومنطقة تل العقارب في حي السيدة زينب حيث بدأ الصندوق بالعمل مع المنطقتين لتطويرهما. إلا أن إحداهما قد تم تهجير جميع سكانها حيث سيتم استغلال الأرض المستفاد منها في المواردي لإحياء دور الحي الثقافي والتاريخي وشكله الحضاري، بينما يتزامن تطوير منطقة تل العقارب والتي أعيد تسميتها لـ«روضة السيدة»  في خضم تغطية إعلامية موسعة وخصوصًا حول عودة السكان للمنطقة مرة أخرى، والذي ربما يكشف ندرة هذا النموذج من التدخلات. بينما في منطقة «عرب اليسار» الأثرية، ينتظر أيضا سكانها التهجير على الرغم من مباني المنطقة الأثرية والتي تصنف أيضا على إنها منطقة من الدرجة الثانية.

العامل المشترك بين هذه التدخلات هي أنها تقع في منطقة مهمة بالنسبة لمحافظة القاهرة، وهي وسط المدينة والقاهرة التاريخية ويدور عنها الحديث في الإعلام بين المسؤولين والهيئات الحكومية والخاصة؛ حول أهميتها الإستثمارية والسياحية وهو ما لا يخفيه المسؤولون أحياناً في تصريحاتهم. أيضاً وتيرة التعامل مع المناطق الغير آمنة قد زادت في الآونة الأخيرة بعد تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقضاء على العشوائيات قبل نهاية هذا العام، حيث تزايدت وتيرة نقل السكان باتجاه المجمعات السكنية الجديدة حول العاصمة.

هذه المجمعات السكنية التي تم انشاؤها حديثا مثل الأسمرات (بالأحمر؛ 18 كم من وسط المدينة)، مساكن عثمان (بالأخضر؛ 45 كم من وسط المدينة)، ومشروعات المحروسة (بالأزرق؛30  كم من وسط المدينة)، هي مشاريع تنفق عليها الدولة من خلال وزارات وأجهزتها وأيضاً بالتعاون مع الصندوق ومحافظة القاهرة، وتستقبل هذه المشاريع جميع السكان الذين يتم نقلهم من مناطق في وسط المدينة وبحكم طبيعة المكان وبعده عن مدينة القاهرة تصبح الحياة اليومية لسكان هذه المجمعات أصعب مما كانت عليه، فيمنع عليهم مزاولة نشاطاتهم التي كانوا يمارسونها في أحيائهم السابقة، حيث أنهم قد يتعرضون للطرد إذا ما زاولوا نشاطا تجاريا من خلال وحداتهم السكنية، كما أنهم أصبحوا أبعد عن وسط المدينة التجاري والذي كان يعد مصدر رزقهم الأوحد ما يؤثر بشكل كبير على دخل الأسرة السنوي كما يوضح أحمد زعزع في حالة سكان مثلث ماسبيرو.

وتمنع إدارات هذه الأحياء السكان من إنشاء الأسواق التجارية داخل هذه التجمعات السكنية ما يثقلهم بعبئ المواصلات حيث قد يطضر السكان لركوب أكثر من مواصلة إذا أرادوا الوصول إلى أقرب سوق للحاجات الغذائية أو منشأة تعليمية أو صحية، ناهيك عن العبئ الإقتصادي للتنقل من مجمعاتهم السكنية إلى وسط المدينة والذي عادة ما يقضون فيها العديد من الساعات بحكم المسافة وحركة المواصلات داخل المدينة. بالإضافة إلى ذلك فإن إدارات هذه المناطق الجديدة تشترط على السكان دفع مبلغ قبل استلام وحداتهم -4000 جنيه- وإيجار شهري -300 جنيه- وإذا ما عجزوا عن هذا فقد يتم طردهم من وحداتهم. وفي العديد من الحالات يتظاهر السكان لكي يتم تخفيض هذه المصاريف والسماح لهم بمزاولة نشاطاتهم التجارية ما يجعلهم عرضة للمسائلات القانونية.

بينما يشكل العبئ الإقتصادي أحد مصادر القلق بالنسبة لسكان هذه التجمعات، يشكل الأمن الإجتماعي لهم مصدر قلق آخر، حيث يتم تسكين سكان المناطق في مجموعات. فمثلاً، من تم نقلهم من تل العقارب يقبعون في مربع سكني واحد، وبالتالي قسمت هذه المجمعات بحسب المناطق التي أتى منها السكان، ما يجعل شعورهم بالأمان في المناطق الجديدة وتنقلهم داخلها صعب، وخصوصاً في غياب البرامج الاجتماعية لدمج السكان في هذه المناطق وينعكس هذا في مطالباتهم بمزيد من الاجراءات الأمنية والتواجد الأمني خصوصاً بعد تكرار المشاحنات بين سكان المناطق المختلفة.

أما بالنسبة للسكان الذين اختاروا التعويضات المادية مقابل ترك أحيائهم فعادة ما يعيدون استثمارها في المناطق المحيطة بمدينة القاهرة والتي في أغلبها مناطق تصنف أنها مناطق غير رسمية بحكم إنشائها على أراضي زراعية، وذلك كان حال ما يقارب 80% من العائلات في مثلث ماسبيرو بحسب الباحث العمراني أحمد زعزع. وفي حالة مثلث ماسبيرو وغيرها من الحالات الأخرى، لم يذكر الصندوق أو يوضح من خلال عينات بحثية كيفية أن هذه الحلول قد تحدث تغيير للأفضل في حياة السكان بعيداً عن المخاطر المختلفة في المناطق تحت تصنيف الدرجة الثانية، أو حتى لقياس نتائج تدخلاته في الدرجات الأخرى مثل الأولى -مخاطر بيئية- أو الثالثة والرابعة.

بحسب التصريحات الصحفية من المحافظة فإن هناك ما يقارب 4 ملايين ساكن في 112 منطقة غير آمنة في مدينة القاهرة يعمل عليها الصندوق بالتعاون مع الأجهزة التنفيذية الأخرى، يقدر عدد المناطق المصنفة درجة ثانية حوالي 28 منطقة، وبحسب نمط التدخلات التي قام بها الصندوق وزادت مؤخراً، فهناك مخاوف وأسباب مقنعة تحتم سكان هذه المناطق والباحثين العمرانين في القلق. ومن خلال سياسات الأجهزة الحكومية العمرانية يتنامى عدد من التساؤلات، فرئيس الصندوق الحالي هو مصطفى المدبولي والذي شغل منصب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، والتي تعمل خارج نطاق مدينة القاهرة وتعمل على تقليل كثافة مدينة القاهرة عن طريق إنشاء مجتمعات عمرانية جديدة مثل مدينة السادس من أكتوبر والسلام وغيرها. وهي الهيئة التي اسندت رئاسة مجلس الوزراء لها تطوير جزيرة الوراق والتي تقع ضمن مخطط تطوير استثماري عن طريق شراكة مع القطاع الخاص، وهي الجزيرة التي لم تدخل تحت تصنيف الدرجة الثانية أو أي من تصنيفات المناطق الغير الآمنة أو غير الرسمية ولكن يظل العامل المشترك بينها وبين المناطق الأخرى في نطاق المدينة هو قيمة الأرض التي تقع عليها وأهميتها الاستثمارية.

تنذر الصورة الحالية بتحول دور الصندوق من تطوير المناطق الأكثر احتياجاً إلى التعاون مع الأجهزة في مدينة القاهرة لإخلاء كثير من المناطق لصالح خطط استثمارية مستقبلية، حيث يتم التعامل مع السكان كمشكلة يتعين التخلص منها وتفريغها ونقلها بدلاً من إشراكهم الفعال في الحلول المستقبلية لتطوير هذه المناطق أو حتى في المناطق التي نقلوا إليها كما صرح المدير التنفيذي للصندوق وهو ما قد يكون كاشفاً لسياسة الصندوق والهيئات المتعاونة معه والتي تعتمد على افتراضات -لربما تثبت صحتها- بتحسن أحوال السكان في غضون 5 سنوات بدلا من إحصائيات دقيقة لما تتبع هذه التدخلات ويتمحور حولها عمل الصندوق كما أوضح في استراتيجية عمله، أو على الأقل توفير البدائل التي لا تسلبهم حق المسكن الآمن والوضع الإقتصادي المستقر، حيث أن المجمعات العمرانية الجديدة التي ينقلون إليها لا يتوفر فيها صفات الحيازة الآمنة للمسكن أو إمكانية تحسين الوضع الإقتصادي وخصوصاً أن الصندوق وباقي الأجهزة المختلفة القائمة على عملية النقل لا تعير هماً للسكان بعد مغادرتهم أو تهجيرهم. بالتالي لايمكن للنظر لوجود الصندوق للعمل على تطوير الأحياء غير الآمنة أو اللارسمية أنها تعمل في إطار حق السكن الملائم إنما يعمل على نهج منظم لنقل وتهجير السكان في تلك المناطق حتى يعاد استثمارها على حساب سكانها، وباستخدام خطاب عمراني يدعي محاولة التخلص من المناطق غير الآمنة من خلال تطويرها وتطويع آليات المشاركة الاجتماعية، وهو ما يقع محل اهتمام المراكز الدولية والهيئات المانحة، ولكن نادراً ما نجد الإلتزام بهذا الخطاب على أرض الواقع في مدينة تعد ذات حصة رئيسية في اهتمام الصندوق وميزانيته.

وما ينتظره سكان المناطق التي أصبحت تحت خطة عمل الصندوق هو أن كيف للصندوق تحسين أوضاعهم وضمان مسكن ملائم وحيازة آمنة، بعيداً عن خطاب التطوير، والانتشال من الأوضاع المعيشية السيئة والخطرة. وما ينتظره أيضاً الخبراء المهتمين بالشأن العمراني في آلية محددة تتيح مراجعة خطة الصندوق ومقارنتها بما ينشر على لسان مسؤوليه، ومايقدم للجهات الدولية على هيئة جهود مكافحة المناطق اللارسمية.

***

ينهي محمد عز عامه الأخير  في قسم العلوم الإجتماعية في جامعة الإسكندرية. من خلال مشاركته في العديد من البرامج والورش, يركز أعماله على البيئة العمرانية وخصوصاً في مدينة القاهرة حيث يهتم بالبحث في السياسات العمرانية وتأثيرها على البعد الاجتماعي والاقتصادي في المدينة. عمل عز في عدد من المؤسسات الثقافية والصحفية سابقاً.

: اقرأ التالي

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…