في عصر «الأخبار الكاذبة».. مصر تفرض الرقابة وتُكمّم الأفواه

في عصر شاع فيه استخدام مصطلح «الأخبار الكاذبة» الذي أطلقه ويردّده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كلما دخل في مواجهة مع وسائل الإعلام الناقدة له.


تم ترجمة هذا المقال من اللغة الإنجليزية. لقراءة النسخة الأصلية اضغط هنا.

***

في عصر شاع فيه استخدام مصطلح «الأخبار الكاذبة» الذي أطلقه ويردّده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كلما دخل في مواجهة مع وسائل الإعلام الناقدة له، يبدو أنّ مصر تأخذ مسارًا موازيًا؛ إذ تُشدّد مِن قبضتها على وسائل الإعلام مِن خلال اتخاذ إجراءات صارمة ووضع أنظمة وتشريعات تُركّز على إحكام قبضة الدولة على ما يُنشر، وكذلك تهميش الأصوات البديلة ومِن ثمّ القضاء عليها نهائيًّا. وعلى الرغم مِن أنّ القانون المصري لطالما جرم «نشر الأخبار الكاذبة وترويج الشائعات» منذ فترة بعيدة فإن الخُطوات الجديدة التي اتخذتها السلطات في الأسابيع الأخيرة، قبيل فترة الانتخابات الرئاسية، تشير إلى أنّ الدولة تشرع في اتخاذ مسار يتضمّن فَرض مزيدٍ مِن الرقابة على فئات المجتمع وتجريم التفكير المستقل على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.

في نهاية فبراير ٢٠١٨، أصدر النائب العام المصري قرارًا بتكليف أعضاء النيابة العامة مسؤولية «متابعة» حسابات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتحديد «الأخبار أو البيانات أو الإشاعات الكاذبة» التي «مِن شأنها تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب في نفوس أفراد المجتمع أو يترتّب عليها إلحاق الضرر بالمصلحة العامة للدولة المصرية،» واتخاذ أي إجراءات ضرورية تجاه إقامة دعاوى جنائية عند العثور على مثل هذا المحتوى، فضلًا عن ذلك، يدعو القرار الهيئات والجهات المسؤولة عن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى إخطار النيابة العامة عند العثور على مثل هذا المحتوى. وبعد أقل من أسبوعين، تابعت النيابة العامة تنفيذ القرار، فأعلنت عن تخصيص مجموعة من أرقام الهواتف المحمولة في مختلف المناطق الجغرافية في مصر، باعتبارها خطوطًا ساخنة لتلقّي شكاوى المواطنين وبلاغاتهم عن الأخبار الكاذبة والشائعات التي تُوفي بالشروط أعلاه، وذلك عبر خدمات الرسائل النصية القصيرة وتطبيق «الواتس آب».

هذه الإجراءات ليست مجرّد أحداث استثنائية، فمجلس النواب المصري يناقش حاليًّا مشروع قانون، طال انتظاره، يتكوّن من ٤٥ مادة بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات (قانون الجرائم الإلكترونية) الذي أحاله مجلس الوزراء إلى مجلس النواب. ويسمح مشروع القانون هذا لسلطة التحقيق المختصّة أن تعرض أمر حجب موقع أو مواقع إلكترونية أو «محتوى محلّ البثّ» على المحكمة المختصة متى قامت أدلة على «قيام موقع يُبثّ داخل الدولة أو خارجها، قد نشر أي عبارات أو أرقام أو صور أو أفلام، أو أي مواد دعائية أو ما في حكمها مما تعدّ جريمة مِن الجرائم المنصوص عليها بالقانون، وتشكّل تهديدًا للأمن القومي أو تعرّض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر». كما يسمح مشروع القانون أيضًا بالحجب الفوري للمواقع الإلكترونية في الحالات «العاجلة»، دون المرور أولًا بإجراء عَرض أمر الحجب على المحكمة المختصّة. وبخلاف الرقابة على المواقع الإلكترونية، يتضمّن مشروع القانون العديد من الأحكام، مِن بينها المواد التي تنظّم إلى حد كبير استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتجريم عدم إبلاغ ضحايا الجرائم الإلكترونية عن الجرائم المرتكبة ضدهم، وتمكين السّلطات من إصدار منع السفر خارج البلاد للأفراد المتهمين بارتكاب أو محاولة ارتكاب جرائم إلكترونية محددة. ومثل تشريعات مصرية أخرى، فوجود مصطلحات مثل «يضر بالأمن القومي» يدقّ ناقوس الخطر، لأن مثل هذه التعابير منحت السلطات في الماضي صلاحيات كبيرة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد المعارضة السلمية غير الإجرامية.

وفي مارس الماضي، في ورشة عمل مكافحة الإرهاب التي نظّمتها وزارة العدل للقضاة وأعضاء النيابات العامة، أشار وزير الاتصالات المصري ياسر القاضي إلى قانون جرائم المعلومات الإلكترونية، قائلا: «بعد ثورة ٢٥ يناير، تمكنت الجماعات الإرهابية والمتطرّفة، عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، مِن استقطاب الشباب أصحاب الفكر غير السوي، لذلك كان يجب على الدولة المصرية التصدي لذلك من خلال سنّ قوانين وآليات للتحكّم في سوق الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات والمنصّات الرقمية». وأضاف أيضًا أنّ مصر ستكون لديها قريبًا منصّة وسائل تواصل اجتماعي خاصة بها، تنافس «فيسبوك». فضلًا عن الدافع الاقتصادي المُحتمل وراء إنشاء مثل هذه المنصة، فإنّ وجود منصة تواصل اجتماعي تديرها الدولة سيُمكنها من مراقبة تفاعلات المواطنين ورصدها وكذلك ما ينشرونه عن كثب. وليس سرًّا القول إنّ الحصول على بيانات المواطنين المصريين هو أمر سعت إليه السلطات من قبل؛ ففي يونيو ٢٠١٧، على سبيل المثال، أفادت بعض التقارير بأنّ السلطات المصرية طلبت الدخول على بيانات برنامج «Heaven»، وهو البرنامج الداخلي لشركة «أوبر» الذي يُوفّر بيانات مباشرة ومحدّثة عن العملاء والسائقين والرحلات الخاصة بشركة «أوبر»، لكن لم تستجِب الشركة لهذا الطلب. كما أعلنت تقارير عن حدوث هجمات احتيال إلكتروني على المدافعين البارزين عن حقوق الإنسان في محاولة لإغرائهم من أجل سرقة كلمات المرور الخاصة بهم.

وتُواصل السلطات المصرية التحكّم في تدفّق المعلومات عن طريق حجب المواقع. منذ مايو ٢٠١٧، تمّ حجب ما لا يقل عن ٤٩٧ موقعًا، مِن بينها مواقع لمنظمات غير حكومية تُركّز على  حقوق الإنسان، وكذلك منصّات إعلامية بديلة مثل «مدى مصر». وبعد زيادة استخدام مشروع تسريع صفحات الجوال (Accelerated Mobile Pages Project) لتوفير روابط بديلة للمحتوى المحظور، حَجبت السلطات المصرية خدمة «مشروع تسريع صفحات الجوال» نفسها في فبراير ٢٠١٨، وهو ما حال على نحو فعّال دون دخول المصريين على آلاف المواقع، وأعلنت شركة«جوجل» منذ ذلك الحين تعليق الخدمة في مصر. وخارج نطاق الرقابة على المواقع الإلكترونية تُواصل السّلطات أيضًا استخدام التشريعات القائمة لملاحقة الأفراد قضائيًّا على التعبير عن الآراء عبر الإنترنت، من خلال الأحكام القديمة التي تجرّم أنشطة مثل «نشر أخبار كاذبة» والتشريع الأحدث مثل قانون مكافحة الإرهاب. وفي ديسمبر ٢٠١٧، على سبيل المثال، تعرّض شخص للاعتقال بسبب مزاعم إدارته صفحة عن الإلحاد عبر «فيسبوك». وفي قضية مختلفة، واجه محامٍ بارز في مجال حقوق الإنسان اتهامات بنشر أخبار وبيانات كاذبة من خلال حسابه على »فيسبوك».

ومع مثل ما سبق مِن تشريعات وأنظمة وإجراءات، سواء في مجال الرقابة على المواقع الإلكترونية أو ملاحقة المواطنين قضائيًّا على ما ينشرونه عبر موقع “فيسبوك”، أصبح تكميم الأصوات البديلة أمرًا حتميًّا. وتعمل الممارسات القائمة والمقصودة للدولة المصرية على ضمان إحكام قبضة السلطات المصرية على الرواية الرسمية من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات العامة؛ فضلًا عن إثارة الشكوك بشأن الروايات الأخرى المغايرة للتوجّه الرسمي للدولة والسعي إلى تهميشها بل وإسكاتها والضغط على وسائل الإعلام وشركات التواصل الاجتماعي والمواطنين العاديين لتتبّع سلوك المواطنين الآخرين، وبالتالي المساهمة في خلق ثقافة تصبح فيها المراقبة والرصد والإبلاغ عن المواطنين الآخرين هي القاعدة. وتُسهم مثل هذه الممارسات في خلق واقع يُمكن معه استهداف وسائل الإعلام المستقلة والمُنظّمات غير الحكومية الصغيرة التي تبلغ عن انتهاكات حقوق الإنسان وتعارض الروايات السائدة، أو إسكات هذه الوسائل أو حتى إخضاعها للرقابة الذاتية، إذ تقوم الحكومة على نحو فعّال بحشد المخبرين، وتمكين الأفراد العاديين الذين ليست لديهم سلطة قانونية أو قضائية ليصبحوا عملاء شرطة غير رسميين للدولة، وفي نهاية المطاف جواسيس على المواطنين؛ فيُصبغ الخوف تفاعلات الأفراد عبر الإنترنت.

مِثل هذا الواقع نَجده في الانتهاك الواضح والصريح لالتزامات مصر المحلية والدولية في مجال حقوق الإنسان والمتعلّقة بحماية حقوق المواطنين في حرية الاعتقاد والفكر والتعبير، وأيضًا المتعلّقة بحُرمة الحياة الشخصية، وكذلك حرية الصحافة، والوصول إلى المعلومات، كما هو مفصّل في المواد رقم ٥٧ و٦٤ و٦٥ و٦٨ و٧٠ من الدستور المصري، والمواد رقم ١٧ و١٨ و١٩ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صدقت عليه مصر. وفي عام ٢٠١٢، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع إلى الأمم المتحدة قراره الأول بشأن تعزيز وحماية حقوق الإنسان على شبكة الإنترنت والتزامات الدول بحماية هذه الحقوق؛ كما أكد، مِن بين أمور أخرى، على “أن الحقوق نفسها التي يتمتّع بها الأشخاص خارج شبكة الإنترنت يجب أيضًا حمايتها، وخصوصًا حرية التعبير، الواجبة التطبيق، بصرف النظر عن الحدود وعبر أي وسائط يختارها الفرد”. ومنذ ذلك الحين، استمرّ العمل في إصدار العديد من القرارات والمبادئ التوجيهية الدولية بشأن التشابك بين الاتصالات الرقمية وحقوق الإنسان من أجل حماية حقوق المواطنين في الوصول إلى المعلومات، والسماح للأفراد بالاستمتاع باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة لا تتعارض مع حقوق الآخرين، واحترام حقوق المواطنين العاديين في الخصوصية. ومِن الصعب القول بأنّ الدولة المصرية التزامت بالمعايير التي وضعها القانون الدولي في ظل تنفيذها إجراءاتها المتعلقة بالإعلام والجرائم الإلكترونية على نطاق واسع، وهي الإجراءات المتكررة التي استهدفت على نحو غير متكافئ المدافعين السلميين عن حقوق الإنسان والأصوات المستقلة أكثر من الإرهابيين أو المتطرفين.

على الرغم من أنّ تصريحات وزير الاتصالات في ورشة العمل، التي نُظّمت هذا الأسبوع، تُؤكّد على أنّ القوة المحرّكة وراء مشروع قانون الجرائم الإلكترونية والإجراءات الأخرى ذات الصلة بالمعلومات هي قضية الإرهاب، وإن كانت القوانين السابقة وممارسات الدولة المصرية تدلّ على أي مؤشر، فإنّ هذه الأدوات الجديدة لن تفعل شيئًا سوى تمكين الدولة المصرية من تكميم المزيد من الأصوات السلمية المستقلة التي تروي ما يناقض الرواية الرسمية للدولة بدعوى محاربة الإرهاب، وتأخذ البلاد في طريقها إلى مستقبل مظلم تُهيمن عليه رقابة الدولة الأمنية.

***

مي السعدني هي زميلة غير مُقيمة للتحليل القانوني والقضائي في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط. وعملت سابقًا في مركز روبرت إف. كينيدي للعدالة وحقوق الإنسان ومؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، وذلك من بين عدد من المؤسسات الأخرى، وغطّت أعمال الأستاذة مي السعدني المنشورة عددًا مِن القضايا القانونية والدستورية في مصر، وقضايا حقوق الإنسان في سوريا، والعنف الطائفي في الشرق الأوسط، والانقسام بين السودان وجنوب السودان، وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في القانون وشهادة في مجال شؤون اللاجئين وحالات الطوارئ الإنسانية من مركز القانون في جامعة جورج تاون، وشهادة الليسانس في العلوم السياسية من جامعة ستانفورد، ويمكنك متابعتها عبر «تويتر»: @maitelsadany.

: اقرأ التالي

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…