القمع المفرط على المجتمع المدني في ليبيا يُرسخ الإفلات من العقاب

وسط تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى والانقسامات السياسية العميقة التي من شأنها أن تواصل تفكيك ليبيا، زادت في الفترة الأخيرة قيود واسعة النطاق على الفضاء المدني في البلاد، وانتشرت ثقافة الإفلات من العقاب التي تقوّض الجهود المبذولة لضمان المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة ضد الجهات الفاعلة في المجتمع المدني.


.here Read this article in English

وسط تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى والانقسامات السياسية العميقة التي من شأنها أن تواصل تفكيك ليبيا، زادت في الفترة الأخيرة قيود واسعة النطاق على الفضاء المدني في البلاد، وانتشرت ثقافة الإفلات من العقاب التي تقوّض الجهود المبذولة لضمان المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة ضد الجهات الفاعلة في المجتمع المدني.

على مدى الأشهر العديدة الماضية، تصاعدت التوترات في ليبيا؛ إذ وصلت مرة أخرى إلى مرحلة من الجمود السياسي منذ تأجيل الانتخابات الأخيرة التي كان من المقرر عقدها في ديسمبر 2021. وفي فبراير، عيّن البرلمان في الشرق فتحي باشاغا رئيسًا جديدًا للوزراء؛ لكن رئيس الوزراء المعترف به دوليًّا عبد الحميد الدُبَيْبة رفض التنحي مُصرًّا على أنه لن يسلّم السلطة إلا لحكومة منتخبة. ومع الخطاب التهديدي وعلامات تعبئة القوات وانقسام الولاءات بين الجماعات المسلحة في غرب ليبيا وسط صراع الدُبَيْبة وباشاغا على السلطة، ظهرت تقارير عن هجمات ممنهجة على نحو متزايد على المجتمع المدني وحرية التعبير. 

الهجوم على المجتمع المدني 

كثيرًا ما استهدفت الميليشيات والجماعات المسلحة، الإعلاميين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لمجرد التعبير عن وجهات نظر انتقادية أو ممارسة عملهم. وخلال الفترة بين سبتمبر وديسمبر 2021، تعرّض ما لا يقل عن 16 صحفيًّا ومدونًا وفردًا عبّروا عن آرائهم عبر الإنترنت، للاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري. ومن بينهم المصور الصحفي صدام الساكت، الذي اختُطف في أكتوبر 2021 على أيدي مسلحين مجهولين تَرَدد أنهم ينتمون لجهاز أمني؛ وذلك أثناء تغطيته لاعتصام للاجئين في العاصمة طرابلس. وفي نوفمبر 2021، اختطفت جماعة مسلحة في مدينة بنغازي شرقي البلاد سراج عبد الحفيظ المقصبي الصحفي بجريدة الحياة الليبية.

يتردد أيضًا أن السلطات الليبية استخدمت الخطاب الديني وغيره من الخطابات الأخلاقية لاعتقال أفراد المجتمع المدني وترهيبهم على نحو تعسفي، وكذلك الأفراد الذين يمارسون حريتهم في التعبير سلميًّا؛ فقد قام جهاز الأمن الداخلي في طرابلس باعتقال سبعة رجال تعسفيًّا بين نوفمبر 2021 و مارس 2022، كان من بينهم مدافعون عن حقوق الإنسان، تتراوح أعمارهم بين 19 و29 عامًا، فيما عُرف باسم “قضية تنوير”، التي سميت باسم المنظمة الليبية التي تدافع عن حقوق مجتمع الميم (المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية) وحقوق المرأة. وبعد اعتقالهم في مقر جهاز الأمن الداخلي، نُقل الرجال إما إلى سجن “الجديدة” أو سجن “معيتيقة”، وفقًا لما ذكرته منظمة العفو الدولية، والسجن الثاني تديره ميليشيا معروفة بتورطها في الاعتقال التعسفي المطول، والاختفاء القسري، والتعذيب.

وعقب اعتقالهم، نُشرت مقاطع فيديو على الفيسبوك لشبان يجبرون بالإكراه على “الاعتراف” بأنهم “ملحدون وكافرون وعلمانيون ومؤمنون بمساواة الجنسين”، وكذلك يتآمرون مع منظمات أجنبية لتدمير أسس المجتمع الليبي.

وقد أدت القضية إلى انتشار خطاب الكراهية والتشهير والتحريض على العنف عبر الإنترنت ضد هؤلاء الأفراد المتهمين بنشر “ازدراء” الدين والانتماء إلى منظمة “تنوير” التي تُعد “حركة سرية غير مشروعة”. وفي 13 مارس، أعلنت الجماعة المدنية أنها اضطُرت لوقف أنشطتها خوفًا على سلامة أعضائها. وفي 24 مارس، أصدرت وزارة الشؤون الدينية أمرًا إلى جميع الأئمة في كل أنحاء ليبيا بإلقاء خطب الجمعة حول “مخاطر الإلحاد”؛ ما أدى إلى تشويه سمعة أعضاء المجتمع المدني والناشطين.

وفي 26 مارس، نشر مكتب النائب العام في طرابلس بيانًا أكد فيه أن جهاز الأمن الداخلي بدأ التحقيق في حركة “تنوير” ومحاكمتهم بتهمة “الدعوة إلى التخلي عن الدين” و”محاولة تدمير واحدةٍ من البِنَى الأساسية للنظام الاجتماعي.”

وخلال النصف الثاني من مارس 2022، اعتقلت الجماعات المسلحة لجهاز الأمن الداخلي في شرق ليبيا، ما لا يقل عن 11 متظاهرًا سلميًّا وصحفيًّا في سرت. وكان المعتقلون قد شاركوا في مظاهرة نُظّمت في 19 مارس للتنديد بالانتهاكات المرتكبة خلال تدخل حلف الناتو عام 2011 والمطالبة بتعويض الضحايا. كانت هذه هي الموجة الثالثة من الاعتقالات بحق سكان سرت منذ استيلاء الجيش الوطني الليبي على السلطة في عام 2020.

فضلًا عن ذلك، فقد نُفذت سلسلة من الاعتقالات التعسفية في شرق ليبيا وغربها في أعقاب مظاهرات خرجت في الأول من يوليو ضد المؤسسات السياسية؛ بسبب تدهور الأوضاع المعيشية والمطالبة بإجراء انتخابات. وتعرض عدد من المتظاهرين -بينهم أطفال- للاختطاف والاعتقال من سلطات الدولة والجهات المسلحة.

ولاحظ حسن كادانو، رئيس منظمة “عدالة للجميع” (AFA) وهي منظمة غير حكومية مؤلَّفة من شبكة من المحامين الحقوقيين والخبراء القانونيين الليبيين ذوي الخبرة في قضايا منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، زيادة الانتهاكات المُبلَغ عنها ضد المجتمع المدني في ليبيا منذ عام 2019؛ مُلَمّحًا إلى الحرب التي خاضتها القوات التابعة للقائد الشرقي خليفة حفتر ضد الجماعات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق الوطني السابقة بين عامي 2019 و2020. وقال كادانو لمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط: “مع انتهاء الحرب في عام 2020؛ أصبح المجتمع المدني هدفًا مدعومًا جدًّا على عكس السنوات السابقة، وجرى استهداف نشطاء حقوق الإنسان تحديدًا؛ لأنهم يمثلون الرابط بين الضحايا والمجتمع الدولي من خلال تسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة.”

في بيان صحفي صدر في مارس، أعرب مسؤولون معنيون بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن قلقهم إزاء “حملة القمع المفرط” ضد المجتمع المدني الليبي، مستشهدين بخطاب الكراهية وحملات التشهير والتهديدات والاعتقالات التعسفية والعنف والتعذيب وأشكال أخرى من الترهيب. ويبدو أن الاعتداءات على المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والصحفيين والأطراف الفاعلة السياسية وغيرهم من العاملين في المجتمع المدني تهدف إلى إسكات أي نوع من الانتقادات؛ ما أدى إلى تقلص المجال المدني في البلاد.

وقادت المؤسسات الأمنية، مثل جهاز الأمن الداخلي وكذلك الجماعات المسلحة التابعة وغير التابعة للدولة في جميع أنحاء البلاد، حملة شرسة ضد حرية التعبير وتكوين الجمعيات، واستهدفت بالأخص المجتمع المدني المستقل والفكر الحر بشأن الأسس الأخلاقية والدينية، كما مارست مضايقات مختلفة ضد نشطاء حقوق الإنسان والمدنيين، وعملت على اعتقالهم وتعذيبهم وترهيبهم بحجة حماية “القيم الليبية والإسلامية”.

كما سلط كادانو الضوء على استخدام وزارة الشؤون الدينية “للخطاب الديني التشهيري”، وهي تعمل بالتعاون مع الحكومة والجماعات المسلحة على “دعم قمع الحريات”. كما ذكر أن هذا التنسيق الذي يعمل على تشويه سمعة الجمعيات المدنية والأفراد، يؤدي إلى إضفاء الشرعية على الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها السلطات بحجة أنها تحمي قيم المجتمع الليبي.

يبدو أن السلطات الليبية المتنافسة من الغرب إلى الشرق تشترك في الهدف نفسه والمتمثل في قمع الأصوات الناقدة، وخلق بيئة من الخوف؛ لترهيب أعضاء المجتمع المدني الليبي من انتقاد السلطات الحاكمة والجماعات المسلحة التابعة لها. وهذه الإجراءات هي جزء من خطة مستمرة للقضاء على المنظمات المدنية المحلية والدولية المستقلة في ليبيا، وتخويف النشطاء السلميين، ووقف العمل الحقوقي لمن يعملون في الشتات.

في مايو 2022، دعت مجموعة من الجمعيات الحقوقية السلطاتِ الليبيةَ الشرقية والغربية، إلى التوقف الفوري عن “هجماتها على ما تبقى من الفضاء المدني في ليبيا”، وإلى ضمان قدرة منظمات المجتمع المدني والنشطاء والصحفيين على أداء مهامها بحرّية، دون قيود ومخاوف غير مبررة وذلك حفاظًا على سلامتهم.

تُعد مفوضية المجتمع المدني هيئة تنظيمية أسستها حكومة الوفاق الوطني السابقة في طرابلس عام 2018، وهي مُكَلّفة بتسجيل المنظمات غير الحكومية واعتمادها في ليبيا. وتخضع مفوضية المجتمع المدني للإشراف المباشر من مجلس الوزراء، ولها سلطات واسعة للتحكم في تمويل ورفض وإلغاء تسجيل وتصاريح العمل للمنظمات المحلية والأجنبية. بالإضافة إلى ذلك، يُطلب من المنظمات الدولية الحصول على إذن المفوضية قبل ممارسة أي عمل. وتثير هذه الصلاحيات مخاوفا بشأن تدخل المفوضية في عمل الجمعيات، وقدرة المجتمع المدني على العمل مستقلًّا نتيجة لهذه الصلاحيات.

لقد دعمت مفوضية المجتمع المدني حملة القمع ضد المجتمع المدني المستقل بل ومكنتها بدلاً من معارضة الهجمات ضد منظماته، مع فرض السلطات الليبية المزيد من القيود التعسفية على عمل المنظمات وأنشطتها منذ أواخر عام 2020. علاوة على ذلك، فقد قادت المفوضية حملة تشهير عبر الإنترنت ضد المجتمع المدني الليبي، مع وصف أعضائه بأنهم “عملاء أجانب” أو “فاسدون أخلاقيًّا” يحاولون تضليل المجتمع الليبي.

وأكدت المفوضية، في بيان نشرته في 27 مارس، دعمها للعمل الذي تؤديه مؤسسات الأمن الوطني، والتدابير القمعية ضد الجمعيات الأهلية. كما أصدرت إعلانًا بوقف عمل جميع المنظمات التي لم تلتزم بالقرار 286، ما يتطلب منها التعهد بعدم التعامل مع هيئات أجنبية دون إذن مسبق من السلطات التنفيذية الحاكمة.

تشريعات متشددة

احتفظت كل من السلطات الشرقية والغربية في ليبيا بقوانين مقيِدة للغاية وسنت أخرى؛ بعضها موروث منذ عهد القذافي، وذلك إلى جانب أوامر وقرارات تنفيذية تمنح الجماعات المسلحة سلطات واسعة لتقييد منظمات المجتمع المدني وتعليقها وحلها في جميع أنحاء البلاد.

اعتمد مجلس النواب الليبي في أكتوبر العام الماضي قانون الجرائم الإلكترونية الذي يحد بشكل كبير من حرية الصحافة وحرية التعبير على الإنترنت، ويسمح للسلطات الليبية باستهداف نشطاء حقوق الإنسان والمدافعين عن حقوق الإنسان ومعاقبتهم. كما يمنح القانونُ السلطاتِ الليبية سلطة واسعة لمراقبة ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عبارات فضفاضة وغامضة مثل “النظام العام” و”الآداب العامة”.

تقيد العديد من المواد والقرارات في القوانين الليبية حرية الكلام والتعبير وتكوين الجمعيات بشكل جسيم. وتشمل هذه القيود فرض عقوبات على عدم احترام الأمة والعلَم الليبييْن، وازدراء الدين، والأعمال التي تهدف إلى قلب النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي للدولة. كما يجري تجريم الحريات الأساسية من خلال مواد قانونية غامضة الصياغة في قانون العقوبات الليبي مثل المادتين 206 و207، التي بموجبهما يتعرض أعضاء المجتمع المدني المستهدفون لخطر عقوبة الإعدام لتأسيسهم جمعيات “غير قانونية”، والانضمام إلى منظمات دولية أو تأسيسها دون تصريح من الحكومة.

وتتعارض هذه الأحكام قطعا مع الإعلان الدستوري الليبي لعام 2011 (المادتان 14 و15) والمعايير الدولية لحرية تكوين الجمعيات وفقًا لالتزامات ليبيا بموجب “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.

ويفرض قرار المجلس الرئاسي رقم 286 بشأن تنظيم المنظمات غير الحكومية، الذي قدّمته حكومة الوفاق الوطني في عام 2019، متطلبات تسجيل صعبة ولوائح تمويل صارمة، ويتطلب إخطارًا مسبقًا للجماعات التي ترغب في تنظيم أو حضور فعاليات المجتمع المدني وأنشطته؛ إذ ينهي بشكل أساسي حق المجتمع المدني في الوجود والعمل بحرية من خلال منح مفوضية المجتمع المدني صلاحيات أحادية الجانب لتسجيل الجمعيات وتشغيلها.

فضلًا عن ذلك، علّق حكم صادر عن محكمة بنغازي تنفيذ القرار رقم 286 في 18 يوليو بشأن تنظيم عمل مفوضية المجتمع المدني، وهي خطوة إيجابية، برغم أنه لم يسحب القرار بعد كما طالبت جمعيات المجتمع المدني.

وفي محاولة لتوفير وضع قانوني للمنظمات غير الحكومية العاملة في ليبيا، دعت المنظمات الحقوقية الوطنية مجلس النواب لتمرير مشروع قانون ينظم عمل المنظمات غير الحكومية؛ من شأنه أن يضمن استقلال المجتمع المدني وحريته. وقدمت جماعات حقوقية وشخصيات عامة ليبية مشروع القانون إلى البرلمان في أكتوبر 2021. وحتى الآن، لم يعتمد مشروع القانون المقترح.

الفوضى وانعدام الأمن

إن التدهور المتزايد في حالة الحريات والحقوق في ليبيا مرتبط جوهريًّا بالفوضى السياسية والبيئة الأمنية غير المستقرة. كما أن عدم الاستقرار السياسي في البلاد من شأنه أن يؤدي إلى العنف مرة أخرى ويقوض احتمال إجراء أي انتخابات مقبلة؛ نظرًا لفشل الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة بين الأطراف الليبية في الاتفاق على إطار دستوري تَوافقي يسمح بإجراء الانتخابات قريبًا.

لقد أدى الصراع على السلطة الذي استمر لأشهر عديدة إلى تأهب حكومة الوحدة الوطنية بقيادة الدبيبة لمواجهة إدارة منافسة بقيادة باشاغا. واندلعت اشتباكات دامية في العاصمة الليبية في عدة مناسبات بعد أن حاول باشاغا دخول العاصمة الليبية في مايو قبل إجباره على العودة؛ إذ دعمت الفصائل المسلحة كل جانب على نحو متكرر في أنحاء المدينة في الأسابيع الأخيرة.

ومنذ انتفاضة 2011، أدى تدخل الناتو الذي أطاح بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وكذلك الانهيار الوشيك لمؤسسات الدولة وحالة الصراع السياسي وانعدام الأمن، بالإضافة إلى انتشار الأسلحة في ليبيا إلى تعزيز امتداد الميليشيات وظهور الفصائل المتطرفة والمنظمات الإرهابية.

تقول آية بورويلة، وهي خبير في القضايا الليبية التي تركّز على التطرف والصراع، وذلك في مناقشتها مع معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط بشأن الأسباب الكامنة وراء دوامة القمع الحالية: “إن مصادر التهديدات التي يتعرض لها المجتمع المدني الليبي، تنبع من انتشار السلاح، وضعف المؤسسات وفرض الشرعية، وتصاعد التطرف الإسلامي الذي انتعش في ليبيا وترسخ في البلاد وسيطر على العديد من مؤسساتها”. 

وأضافت أن “استمرار [هذه] الحلقة المفرغة يؤدي إلى حرمان الليبيين من ممارسة أبسط حقوقهم المدنية؛ لا سيما الحق في التصويت والانتخاب واختيار حكوماتهم التي ستكون مسؤولة عن ضمان احتياجاتهم وحقوقهم”. وتابعت: “دون وجود حكومة منتخبة و بالتالي يمكن مسائلتها، من الصعب بناء بيئة تعزز حقًّا الحقوق المدنية بأكملها وليس جزء منها”.

وفي هذا السياق من الاعتداءات المستمرة على حرية التعبير وعمل المجتمع المدني، كان تجديد ولاية بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في ليبيا في 4 يوليو أمرًا حاسمًا؛ نظرًا لدورها المهم في تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في ليبيا؛ لا سيما القيود المفروضة على حرية التعبير والاعتداء على منظمات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان. وكان عمل بعثة تقصي الحقائق أمرًا حيويًّا في التقصي المستقل للحقائق المتعلقة بانتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني التي ارتكبتها جميع الأطراف الليبية في النزاع منذ عام 2016.

تُعد البعثة هي الآلية الوحيدة المتبقية للتحقيق في الجرائم والانتهاكات المستمرة، وردع المزيد من الانتهاكات عن طريق ضمان المساءلة. وقد تمكنت من إصدار تقريرين رفيعَي المستوى في أكتوبر 2021 ومارس 2022 يسلطان الضوء على رصد أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا وشدتها، وتأكيد الحاجة إلى إجراء المزيد من التحقيقات لإنهاء دائرة الانتهاكات ومعالجة الإفلات من العقاب.

بيد أنه تم تمديد عمل هذه البعثة لمدة تسعة أشهر فحسب غير قابلة للتمديد؛ على الرغم من الدعوات الصادرة من منظمات حقوق الإنسان لتجديدها لمدة عام كامل على الأقل. وقد شجب كادانو، رئيس منظمة عدالة للجميع، قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن تجديد ولاية البعثة قائلًا: “تجديد بعثة تقصي الحقائق لمدة تسعة أشهر فقط؛ كان خيبة أمل كبيرة، وأسوأ ما في الأمر هو أن هذه الفترة نهائية”. وناشدت منظمته غير الحكومية -إلى جانب جمعيات أخرى- الشركاء الدوليين لتقديم أقصى قدر من الدعم والسماح بحرية الحركة للضحايا والمدافعين عن حقوق الإنسان؛ لتمكين البعثة من ممارسة عملها كما يجب”.

وقد صرّحت إلهام سعودي، مديرة منظمة “محامون من أجل العدالة في ليبيا” في تغريدة لها قبل تمديد ولاية البعثة بأن “بعثة تقصي الحقائق هي الأداة الوحيدة المتبقية لدينا من أجل الحقيقة… عادة ما يستطيع المجتمع المدني سد الفجوة في اكتشاف نقاط ضعف الدولة؛ لكن القمع الممنهج على المجتمع المدني في ليبيا ليس أمرا عارضا أو بمحض الصدفة؛ وإنما هو قمع متعمد”. 

وقد أجبرت حملة القمع المتصاعدة ضد المجتمع المدني، العديدَ من المنظمات والنشطاء على مغادرة البلاد، أو تعليق أنشطتهم أو تقليصها، أو حتى الانسحاب من الحياة العامة خوفًا من الانتقام؛ إذ تتعرض المدافعات عن حقوق الإنسان -تحديدًا- لخطر الترهيب والعنف وسط الصراع المستمر وتصاعد التطرف في جميع أنحاء البلاد. وأشار رئيس منظمة “عدالة للجميع” إلى أن “أي شخص يتحدث عن أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا إما يتعرض للهجوم، أو الاختفاء القسري، أو السجن، أو التعذيب من أي من الطرفين المتحاربين”.

من الواضح أنه من شبه المستحيل بناء مساحة آمنة وديمقراطية في ليبيا مع غياب المساءلة والإرادة السياسية اللازمة للتخفيف من العنف، خاصة مع عدم وجود إطار قانوني لتنظيم عمل المجتمع المدني الداعم لحرية التعبير وتكوين الجمعيات.

 

 أليساندرا باجك صحفية مستقلة متخصصة في قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

: اقرأ التالي

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…