الدولة والإسلاميون و«خانة الديانة»: ما الذي لا يريدونه أن يتغير


هذا المقال هو ترجمة لمقالتين تم نشرهما باللغة الإنجليزية. اضغط هنا لقراءة الجزء الأول، وهنا لقراءة الجزء الثاني.

* * * * *

في 8 أغسطس 2006 نظم المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، ملتقى لمناقشة مقترح حذف خانة الديانة من بطاقة القومي، وفي مقدمة الكتاب الذي يضم الأوراق والمداخلات التي نوقشت في الملتقى، كتب بطرس بطرس غالي، رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان آنذاك: «من الأمور التي أثارت انتباه المشاركين ودفعت بعضهم للتساؤل الصريح هو ذلك الإتفاق في المواقف والرؤى بين تيار عبر عنه في الملتقى ممثل «مركز سواسية» (أسسه محامون منتمون لجماعة الإخوان المسلمين) وبين ما عبر عنه ممثل وزارة الشئون القانونية والمجالس النيابية، فيما يتعلق بالرفض القاطع للمقترح، بل إن بعض المشاركين رأي أن المبررات والعبارات التي استخدمها كلا الطرفين جاءت متشابهة إن لم تكن متطابقة»[I]

ترسم هذه الملاحظة مشهدا مكررا، اتفقت فيه رؤى أجهزة الدولة ومؤسساتها القانونية ورؤى التيار الإسلامي لعقود فيما يخص قضايا حرية الدين والمعتقد، ومن ضمنها المطلب الخاص بخانة الديانة

مشروع ”إلغاء خانة الديانة“: متى ترد الجهات المعنية؟

كان مفاجئا أن يتقدم النائب علاء عبد المنعم، المتحدث باسم ائتلاف «دعم مصر»، الذي يمثل أغلبية البرلمان الداعم للحكومة، بمشروع قانون يتضمن لمواجهة التمييز وتنص المادة الثالثة منه: “تلغى خانة الديانة في بطاقات الرقم القومي وكافة الوثائق والمستندات الرسمية ولا يجوز إجبار أي مواطن على الافصاح عن ديانته إلا إذا كان الإفصاح ضروريا لترتيب مركز قانوني كالميراث أو الزواج»[ii]

هذا المشروع هو واحد من عدة مشاريع تقدم بها نواب تلبية لتوصية الدستور بإنشاء مفوضية لمكافحة التمييز. وبعيدا عن تجدد المقترح المثير للجدل، فمشروع القانون يتضمن بنودا أخرى تكرس أزمة حرية الدين والمعتقد، منها : «حظر إنشاء أو تكوين جمعيات أو روابط أو أي تجمع من أي نوع يُنشأ على أساس ديني» وهو ما يهدد حرية التجمع للطوائف والمجموعات الدينية، و«تجريم الدعاية والأنشطة التي تؤثر على الوحدة الوطنية»، وهو ما يستخدم عادة ضد محاولات تقديم معلومات عن التمييز الديني أو المشكلات الطائفية، وكذلك «تجريم تحقير الأديان والعقائد» وهو سند قانوني آخر لتهديد حرية التعبير في مجال الدين ينضم إلى المادة 98 ومن قانون العقوبات التي تستخدم في محاكمات «أزدراء الأديان» التي تصاعدت بشكل خطير في السنوات الأخيرة

وبعيدا عن باقي تفاصيل مشروع القانون ومشكلاته الخطيرة الأخرى، فإن ائتلاف «دعم مصر» الذي يشكل الأغلبية ويدعم الحكومة الحالية، لم يبدُ متفقا بخصوص المشروع، فأسامة العبد، عضو الائتلاف ورئيس اللجنة الدينية في البرلمان، أعلن اعتراضه على المشروع وتحديدا على مادة إلغاء خانة الديانة، وفي مواجهة الانتقادات لهذه المادة اقترح النائب علاء عبد المنعم تأجيل مناقشة هذه المادة وحدها لحين الانتهاء من مناقشة باقي المواد، ولكن قررت اللجنة التشريعية تأجيل مناقشة كل المشروعات المتعلقة بمكافحة التمييز انتظارا لرأي الدولة و«الجهات المعينة» فيها [iii]

مر عامان ولم يظهر رأي «الجهات المعنية» حتى الآن، ويبدو ذلك تأكيدا ضمنيا إضافيا على مشهد الاتفاق القديم بين موقف جهات الدولة وموقف الإسلاميين فيما يخص هذه القضية.

خانة الديانة كانتهاك للحق في الخصوصية

يتكرر كثيرا وفي جدل إعلامي وسياسي مطلب «إلغاء خانة الديانة من بطاقة الهوية» ولا يبدو من الجدل واضحا إن كان هذا المطلب مرتبطا بإلغاء توثيق أديان المواطنين في استمارات طلب بطاقة الرقم القومي من الأصل، أم فقط يرتبط بعدم ظهور محتوى هذه الخانة في البطاقة

يتضمن القرار رقم 1121 لسنة 1995 بشأن إصدار اللائحة التنفيذية لقانون الأحوال المدنية نموذج استمارة التقدم للحصول على بطاقة الرقم القومي أو تعديلها وتتضمن خانة الديانة.[iv] وأيضا تحدد اللائحة التنفيذية في المادة 33  أنها من البيانات الظاهرة في البطاقة نفسها حيث تنص على أنه:

«تحتوى البطاقة على المعلومات التالية عن كل مواطن :

مكتب الاصدار .

الرقم القومى .

الاسم الرباعى .

محل الاقامة .

النوع .

الديانة .

المهنة .

اسم الزوج (للاناث المتزوجات ) .

تاريخ انتهاء صلاحية البطاقة».[v]

هناك العديد من البيانات الأخرى توثقها الدولة ولا تظهر في البطاقة مثل اسم الأم واسم الزوجة بالنسبة للذكور، والحالة الاجتماعية في حالة كونها «مطلق» أو «مطلقة» لا تظهر

وينص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 في بنود المادة 18 على حرية الإنسان في الإعلان عن دينه ومعتقده أو عدم الإعلان و«لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية»

وبفرض الاتفاق على ضرورة توثيق الدولة لديانات وعقائد المواطنين، فإن الترتيب القانوني الملزم بظهور الديانة أو المعتقد في بطاقة الهوية يعد خرقا لهذه المادة بدون أي مبرر، حيث أن الإطلاع على كافة البيانات الظاهرة وغير الظاهرة في البطاقة متاح لأجهزة الدولة، كما أنها يمكن أن تظهر في وثائق خاصة لذلك تستخدم في الاجراءات التي يختار المواطنون فيها أن يتعاملوا وفق أديانهم، في مسائل الأحوال الشخصية أو في وصايا الوفاة أو مسائل دينية أخرى

يتسبب ذلك الإعلان الإجباري للديانة في تضييق رسمي ومجتمعي على البهائيين بسبب وجود الشَرطة (-) في خانة الديانة لكثير منهم منذ 2009، واحتمالات تمييز متعددة ضد المسيحيين في أماكن العمل والدراسة وفي شغل الوظائف

جهات دينية لتوثيق الديانة للراغبين بعيدا عن الدولة؟

الترتيب القانوني الملزم بإعلان المواطنين عن ديانتهم للدولة لتوثيقها – حتى بدون ظهورها في بطاقة الهوية –  يمكن تجاوزه بالاعتداد بتوثيق الجهات الدينية أو الطوائف التي ينضم لها الناس بحرية ويتركونها بحرية وعلى هذا الأساس تترتب المعاملات ذات الطابع الديني أو التي يختار فيها المواطنين التعامل وفق أديانهم وطوائفهم، ففي دول عديدة لا تهتم الدولة بتوثيق ديانة المواطن ويترك له حرية فعل ذلك عند الجهة الدينية التي يرغب في الانضمام إليها، وجوده في سجلات الكنائس أو الطوائف المختلفة هو ما يتيح له ممارسة الزواج مثلا وفق شعائر دينية وقتما يشاء أو الاكتفاء بتوثيق الزواج لدى أجهزة الدولة وفق القانون

ولكن مثل هذه الخيارات القانونية تعد تهديدا للسياسات الدينية للدولة المصرية التي تتخذ الدين الإسلامي دينا رسميا، وتحتكر بنفسها قانونا إدارة شئونه عبر مؤسسات دينية رسمية، هي مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء، ولذلك يعد كل المسلمين في مصر تابعين في ممارسة شعائرهم وأحوالهم الشخصية – بشكل إجباري – للدولة ومؤسساتها الدينية، ولا يمكن ممارسة شعائرهم التعبدية أو أحوالهم الشخصية وفق أي مذهب إسلامي مختلف عن المذهب السني كما يظهر فقهيا في التشريعات أو كما تقرره اختيارات الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء

ولذلك فعلى عكس المتصور أن تحرير سياسات الدولة تجاه توثيق خانة الديانة هو متعلق فقط بحالة غير المسلمين، فإن فتح الباب أمام توثيق الديانة عن طريق جهات دينية يختارها المواطنون بحرية يعد ماسا بجذر السياسات الدينية المصرية وسياسات الدين الرسمي، وسيفتح الباب أمام حرية مجموعات من المسلمين في اتخاذ مذاهب عقائدية أو فقهية مختلفة عن التوجه الديني الرسمي في أحوالهم الشخصية أو ممارسة شعائرهم، وبالتالي الانتماء لجهات دينية مختلفة عن المؤسسات الرسمية، وهو ما يفتح الباب أمام تنوع ديني داخل الإسلام نفسه، ترفضه الدولة بحسم، حيث لا تزال الدولة تتحكم بالكامل في الشئون الإسلامية عبر المؤسسات الدينية الرسمية وتستفيد من تلك الهيمنة سياسيا وتحذر من خطورة تنوع طوائف المسلمين على الدولة وعلى المجتمع

وهي السياسات نفسها التي أكدت عليها حكومة الإخوان المسلمين في الفترة القصيرة لحكمها، مع تعديلات غير جوهرية لا تهدف إلا لإفساح الطريق لإحلال رجال التيار الإسلامي وشبكة تحالفاتهم محل رجال حكومات ما قبل ثورة يناير 2011  لتنفيذ نفس السياسات المركزية بملامح جديدة.[vi]

خانة الديانة كأداة لتقييد التنوع الديني

يكشف تعامل الدولة سابقا وحاليا مع “خانة الديانة” عن طبيعة حرية الدين المقيدة بضرورة اختيار ديانة من الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية. ووفق شروط أيضا. خارج هذه الخيارات، تعرض البهائيون على مدى سنوات لرفض تسجيل ديانتهم من قبل موظفي مصلحة الأحوال المدنية ولكنهم تمكنوا أحيانا من إثباتها “بهائي” أو “أخرى” في بعض المكاتب

وفي عام 1995 بدأت الدولة تسجيل بيانات المواطنين في قواعد بيانات إلكترونية تم إعدادها لتصدر في بطاقة الرقم القومي الإلكترونية عام 1995 – مع مهلة حتى عام 2008 يتوقف بعدها التعامل بالبطاقات الورقية القديمة – واجهوا الرفض التام لتجديد بياناتهم وإثبات «البهائية» كديانة، وتم مطالبتهم من قبل بعض الموظفين باختيار الإسلام أو المسيحية، وتعرضوا لصعوبات عديدة في استخراج كافة الأوراق الرسمية والالتحاق بالعمل أو الدراسة أو إثبات الزواج وفق الدين البهائي وتسجيل المواليد وغيرها من الخدمات الأساسية. وبعد دعاوى تقدم بها بهائيون للقضاء الإداري وصراع قضائي استمر سنوات حصلوا أخيرا في 2009 على حكم بإثبات (-) في خانة الديانة.[vii]

ووفقا لهذا الحكم، أصدر وزير الداخلية القرار رقم 520 لسنة 2009 الذي ينص على: «ويتم إثبات علامة (ــ) قرين خانة الديانة للمواطنين المصريين الذين سبق قيدهم أو حصولهم أو آبائهم على وثائق ثبوتية غير مثبت بها إحدى الديانات السماوية الثلاثة أو مثبت بها علامة (ــ) أمام خانة الديانة، إو إنفاذاً لأحكام قضائية واجبة النفاذ. ويسري ذلك على كافة النماذج والإصدارات الأخرى المرفقة باللائحة، شريطة أن يقدم طلب بذلك من ذوي الشأن إلى مساعد وزير الداخلية لقطاع مصلحة الأحوال المدنية أو من ينيبه، ويتم إيداعه بالسجل المعد لذلك»

وهذا القرار الذي ينص على الاستثناء المحدود لهذه الفئة المحددة فهو دال على التقييد الأصلي للاختيارات فيما يتعلق بالأديان والعقائد، وهو ما يعني عمليا التقييد التام للعديد من الحقوق التي تترتب على اعتداد الدولة بإثبات هذه الديانة وما يترتب عليها، مثل إمكانية عقد زواج ديني أو إمكانية اتخاذ الجمعيات ودور العبادة، وهو ما يتربط بالممارسات الأمنية التي تعتبر أي تجمع ديني أو تعبير ديني مخالف للأديان الثلاثة هو ممارسة تشكل خطرا أمنيا قد تستجوب الملاحقة والتوقيف وربما الإحالة للمحاكمة بتهمة «ترويج أفكار متطرفة تهدد الوحدة الوطنية»

وفي نوفمبر 2014 تقدم المواطن هـ. م. بطلب لمصلحة الأحوال المدنية بتغيير ديانته من «مسلم» إلى «لا ديني» وتم رفض طلبه وحصل على خطاب من إدارة الشئون القانونية لمصلحة الأحوال المدنية جاء فيه: «يتعين إثبات إحدى الديانات السماوية الثلاث ولا يجوز إثبات الديانة (لا ديني)». كان هذا الحالة الوحيدة في حدود علمي التي تم فيها الرد كتابة على هذا النوع من الطلبات، ومن ناحية أخرى هناك شهادات متعددة لمواطنين آخرين تم رفض طلبهم بإثبات «ملحد» أو «لاديني» في خانة الديانة بدون أي رد رسمي ولم يتم قبول أوراقهم للحصول على بطاقة الرقم القومي إلا بتدوين ديانة الأب.

هذه القرارات والممارسات لا تعني فقط حرمان مواطنين من الحياة وفق عقائدهم الحقيقة ولكنها تعني أيضا إكراه مواطنين على إعلان حقائق كاذبة بشأن معتقدهم، والاضطرار إلى ممارسات دينية وفق أديان لا يعتنقونها فعلا، ولكنهم مضطرون للاختيار من بينها مثل ضرورة الزواج كمسلمين وفق الشريعة الإسلامية أو كمسيحيين في إحدى الكنائس لعدم قبول الدولة توثيق عقود زواج غير دينية

ولذلك فإن إلغاء خانة الدين من الوثائق أو حتى قبول الدولة لتسجيل المواطنين لأديانهم وعقائدهم الحقيقية بدون إكراه وتضييق يتطلب أن تقبل الدولة بنظم زواج غير تلك الإسلامية والمسيحية – واليهودية نظريا – وأن تقبل بتوثيق أي زواج وفق أي معتقد وأن تقبل أيضا توثيق زواج غير ديني، وهو ما يتطلب تعديل قوانين الأحوال الشخصية

الإسلام كخيار أبدي في خانة ديانة أغلبية السكان

ترفض مصلحة الأحوال المدنية رفضا قاطعا تغيير خانة الديانة من «مسلم» إلى أي ديانة أخرى، وأيد القضاء تلك الممارسة. وهو ما يعني أن المولود لأب مسلم والذي يسجل في شهادة الميلاد مسلما لا يمكنه تغيير خانة الدين أبدا. ونظرا لأن أغلبية السكان مسجلين كمسلمين لآباء مسلمين وبالتالي سيسجل أبناءهم كمسلمين تبعا لهم فإن هذه السياسة تحافظ على تسجيل الأغلبية كمسلمين بما في ذلك من لا يؤمنون بالإسلام وتحولوا لديانة أخرى أو غير مكترثين بالدين. وهذه السياسة التي تؤيدها أحكام القضاء تستند للشريعة الإسلامية بشكل مرتبك، وتصف اختيار اعتقاد غير الإسلام لمن نشأوا من أسرة مسلمة أو أسلموا ثم تراجعوا باعتبارها «ردة»، ورغم أن القانون لا يرتب عقوبة جنائية على مطلق فعل الردة عن الإسلام، إن لم يتقرن بما يتم اعتباره «ازدراء للدين»، إلا أن الدولة ترفض «الإقرار على الردة» وبالتالي فإن من يطلب التراجع عن الإسلام يتم إكراهه على استكمال حياته رسميا كمسلم، رغم أن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية، وفي حالات أخرى يكون فيها الشخص قد عبر علانية عن أفكار تعتبر دليلا على الردة عن الإسلام فإن القضاء، وبالرغم من عدم الإقرار على الردة، يقضي بتطبيق أحكام شرعية تخص المرتد عن الإسلام، فيحكم بتفريق «المرتد» وزوجته، ويحرمه من أي إرث من أسرته المسلمة. [viii]

وهنا أيضا نرى أن هذه السياسات التي تخص خانة الدين تنتهك حرية الدين والمعتقد لدى أغلبية المواطنين من المسجلين كمسلمين، حيث أنها تحرمهم بإطلاق من حرية اختيار الدين والمعتقد وتكرههم على ديانة آبائهم. على جانب آخر، كان «المرتدون» عن الإسلام من ذوي الأصول المسيحية أوفر حظا، فقد سمح القضاء الإداري للمسيحيين الذين أسلموا ثم عادوا إلى المسيحية بتغيير ديانتهم مرة أخرى إلى المسيحية، وجاءت حيثيات حكم المحكمة الإدارية العليا في إحدى القضايا لتكرر ما قالته أحكام أخرى أن ذلك «ليس إقرارا للردة» وقال نص الحيثيات:  «قيد بيان تعديل الديانة من الإسلام إلى المسيحية فى بيانات بطاقة تحقيق الشخصية لا يعد إقرارا لهذا الشخص على ما قام به؛ لأن المرتد لا يقر على ردته طبقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية وما استقرت عليه أحكام هذه المحكمة وأحكام محكمة النقض ، وإنما يتم ذلك نزولا على متطلبات الدولة الحديثة».[ix]

وهذا النص الاعتذاري يوضح الصدام بين ما يعتبره القضاء مباديء الشريعة الإسلامية وبين متطلبات الدولة الحديثة، وهو مطلب بسيط يقضي أن يسجل المواطن في خانة الديانة معتقده الفعلي، ولكن ارتباك القضاء بين أحكام الفقه تجاه المرتدين وعدم إمكان ذلك في الوقت الحالي في ظل “الدولة الحديثة”، فانتهى الأمر بالدولة والقضاء إلى هذا الموقف الغريب. هذا الموقف المرتبك من «خانة الدين» مؤشر ذو دلالة على الموقف الأكبر المرتبك تجاه حرية الدين والمعتقد، حيث أن السياسات الدينية للدولة المصرية لا تزال مستندة لسياسات دينية تاريخية مرتبطة بدولة المسلمين وبالشريعة الإسلامية ولم تشهد انقطاعا ثم تأسيسا على مباديء المواطنة وحرية الدين والمعتقد، أو إصلاحا على نطاق واسع وفق متطلبات الدولة الحديثة، ولكن ظلت السياسات الدينية مرتبطة بحماية «الإسلام» كدين أغلبية السكان وتقييد الديانات المعترف بها رسميا لتكون امتدادا لقبول “أهل الكتاب” في دولة المسلمين، ومن جانب آخر استمرت السياسات الدينية التي تجعل للدولة سيطرة على الشئون الدينية الإسلامية وعلى حياة المسلمين الدينية كامتداد لسياسات «دولة المسلمين» التي يبسط فيها «الحاكم المسلم» ولايته على شئون المسلمين الدينية ويديرها عبر وكلاء ونواب عنه هم حاليا المؤسسات الدينية الرسمية التابعة للدولة.[x]

يقود الجدل حول «خانة الدين» وما يرتبط بها في القانون والممارسة السياسية إلى فتح ملف السياسات الدينية وحالة حرية الدين والمعتقد بشكل واسع، ويدعو إلى تغييرات جذرية فيهما تحدث انقطاعا مع سياسات وأفكار «دولة المسلمين» التاريخية، وربما لهذا اتفق دائما موقف مسئولي الدولة وموقف التيار الإسلامي، وفيما يبدو لا يزال هذا الاتفاق ساريا إلى حين

 

 

 [i]

                 بطرس بطرس غالي، مقدمة “الملتقى الرابع للمجلس القومي لحقوق الإنسان والمنظمات الأهلية لمناقشة مقترح حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي”، من إصدار المجلس القومي لحقوق الإنسان، القاهرة 2006، ص 6

           

[ii]
 موقع برلماني، 1 يونيو 2016

           

[iii]

 الوفد، 21 أغسطس 2016

           

[iv]

الوقائع المصرية – العدد 50 ( تابع) 27 فبراير 1995 ص 73

           

[v]

 الوقائع المصرية – العدد 50 ( تابع) 27 فبراير 1995 ص 39

            

[vi]

       راجع “لمن المنابر اليوم” ص 39. حكومة الإخوان: ترميم الافتراضات المركزية بملامح جديدة
https://eipr.org/sites/default/files/reports/pdf/to_whom_do_minbars_belong_today.pdf

            

[vii]


بيان المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بشأن الحكم

http://eipr.org/pressrelease/2009/04/14/74

[viii]

 لمزيد من التفاصيل، راجع: تغيير الديانة وحرية المعتقد، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
http://eipr.org/report/2009/12/06/260/268

 

[ix]
 نص الطعن رقم 12794 للسنة القضائية 51

 

[x]

 لمزيد من التفاصيل عن السياسات الدينية للدولة كامتداد لسياسات “دولة المسلمين” التاريخية، راجع: لمن المنابر اليوم، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية 2014
https://eipr.org/sites/default/files/reports/pdf/to_whom_do_minbars_belong_today.pdf

: اقرأ التالي

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…