انفجار بيروت يُفاقم أزمة الغذاء الحالية في لبنان

يعتبر انفجار مرفأ بيروت بمثابة ضربة موجعة للبنان حيث كلّف اقتصاد البلاد المُنهار أساساً فاتورة إصلاح وترميم تخطّت 15 مليار دولار.


يعتبر انفجار مرفأ بيروت بمثابة ضربة موجعة للبنان حيث كلّف اقتصاد البلاد المُنهار أساساً فاتورة إصلاح وترميم تخطّت 15 مليار دولار.

يُعدّ مرفأ بيروت الشّريان الاقتصادي الرئيسي في لبنان حيث يستقبل نحو 80٪ من السِّلع المُستوردَة للبلاد، وتمرّ عبر المرفأ ما يقارب ثلاثة أرباع الواردات بما في ذلك المواد الغذائية. ناهيك عن ذلك فقد دمَّر الانفجار صومعة الحبوب الوحيدة في البلاد والتي تبلغ سعتها 120 ألف طن، مما أدّى إلى زيادة تفاقم أزمة الغذاء المحدقة التي تواصل التدهور بالتوازي مع حالة الاقتصاد المتدهورة.

انخفضت قيمة الليرة اللبنانية بنحو 80٪ في أقلّ مِن عامٍ مما أدّى إلى عرقلة إمداد الغذاء والمواد الأولية اللازمة لإنتاج الغذاء. وقد أسفر هذا عن ارتفاع حاد في أسعار الأغذية لكل من الموردين والمُستهلكين على حد سواء بما في ذلك أهم المواد الأساسية كالخبز.

دوَّامة الاقتصاد المعتمد على الاستيراد في لبنان

لا يمثِّل القطاع الزراعي في لبنان سوى هامشًا ضئيلًا من الاقتصاد الكلي قد يصل إلى نحو 5٪ من إجمالي الناتج المحلي للبلاد ونحو 8٪ من القوة العاملة. أما إنتاج القمح المحلي للخبز فلا يكفي سوى نحو 10٪ من الطلب الاستهلاكي. وبالتالي يأتي معظم القمح اللبناني من الواردات التي أخذت في التزايُد في السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصادية أواخر عام 2019. وقد حافظ الاعتماد على القمح المستورد والمُصدَّر إلى جانب الدعم الحكومي على إبقاء سعر الخبز مستقرًّا نوعًا ما على 1500 ليرة لبنانية، أي دولارًا واحدًا بالضبط حسب السّعر الحكومي الرسمي.

لكن الوضع تغيّر تبعًا للأزمة الاقتصادية في البلاد وانخفاض قيمة العملة، وهو ما أعاق قدرة المطاحن اللبنانية على استيراد القمح في البلاد. وقد أجبرت الحالات المتقطّعة لنقص القمح في الشهور الأخيرة المخابز على تطبيق حد أقصى للشراء لمنع التخزين. وقد وصل الوضع إلى حدود مُقلقة لدرجة أنّ الحكومة التي تمرّ بضائقةٍ ماليةٍ نظرت في استيراد القمح (بمقدار 80 ألف طن) لأوَّل مرة منذ ست سنوات. لذلك لم يكُن مفاجئًا أن تزيد الحكومة اللبنانية سعر الخبز المدعوم بمقدار الثّلث في نهاية الأمر ليصل إلى 2000 ليرة.

كان انفجار بيروت بمثابة صفعة إضافية لأزمة الغذاء المُقلقة بالأصل في لبنان، حيث اعترف وزير الاقتصاد اللبناني بعد أيام قليلة من الانفجار بأن احتياطي الحبوب في البلاد لن يكفي لشهر واحد. وعلى الرغم من أنّ الوزير قد أعلن عن وصول مساعدات كافية مِن الدقيق والغذاء لتجنُّب حدوث أزمة، إلا أن أخبارًا جديدةً ظهرت مؤخّرًا مفادها أنّ البنك المركزي اللبناني لن يستطيع تقديم الدعم المالي لاستيراد الحبوب والواردات الرئيسية لأكثر من ثلاثة أشهر.

لمحة خاطفة عن الأزمة في البلاد

على الرغم مِن وعود الكويت بإعادة بناء صومعة الحبوب في مرفأ بيروت ومن تدفّق المساعدات الإنسانية إلى لبنان ولا سيما طرود الغذاء، لا تزال أزمة الأمن الغذائي تُشكِّل تهديدًا كبيرًا للسُّكان المنكوبين في ظل استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

ففي أبريل الماضي، حذَّر رئيس الوزراء حسان دياب مِن حدوث طفرات أخرى قد تُؤدِّي إلى ارتفاع الأسعار الذي وصل حتى الآن إلى أكثر من 70٪ من الزيادة، على الرغم من أن تضخّم أسعار المواد الغذائية اليوم قد وصل إلى أكثر من 336٪ وفقًا لإدارة الإحصاء المركزي التابعة للدولة.

تُعدّ الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الملموسة ضرورية للتخفيف مِن أزمتي الأمن الغذائي والسِّيادة في لبنان على المدى المنظور، لكن حلّ هذه الأزمات على المدى البعيد مرتبط بمشكلة البلاد الاقتصادية الأشمل. فمنذ عام 1990 وبعد نهاية الحرب الأهلية التي دامت لمدة 15 عامًا، حوّلت عملية إعادة الإعمار اقتصاد البلاد إلى اقتصادٍ قائمٍ على الخدمات ومعتمدٍ إلى حد كبير على القطاعات المصرفية والسياحية والعقارية، في حين تلقّت القطاعات الإنتاجية – وخاصَّةً قطاعا الصناعة والزراعة – استثمارات اقتصادية أقلّ بكثير وتعرَّضت إلى الإقصاء شيئًا فشيئًا بعد أن استحوذ الاستيراد على جلّ الاهتمام.

أحد الأمثلة على ذلك التّفاح اللبناني الذي يُعدّ واحدًا مِن أكبر القطاعات في مجال الزراعة في البلاد. فقد كان لبنان ينتج نحو 200 ألف طن مِن التفاح سنويًّا قبل الحرب الأهلية عام 1975 وكان بذلك مُورِّدًا رئيسيًّا في المنطقة. لكن تلك الأرقام تأرجحت بين عامَي 1990 و2001 لتصل إلى نحو 100 ألف طن لم يحقق الكثير منها المعايير الدولية للتصدير. وبحلول عام 2019 انخفضت الأرقام إلى نحو 30 ألف طن بعد أن فشلت الحملات الإعلامية غير الجدّيّة التي أطلقتها وزارة الزراعة – مثل يوم التفاح اللبناني – في زيادة الطلب الداخلي والإقليمي على التفاح المحلي.

لقد أصبح الانخفاض السريع في إنتاج الغذاء المحلي والارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية أكثر مِن مجرّد مصدر إزعاج للشعب اللبناني مع استمرار معدَّلات الفقر والبطالة في التضخّم بشكل يُنذر بالخطر. فقد أعلن البنك الدولي في نوفمبر 2019 عن مخاوفه مِن أنّه من المحتمل أن يُعاني 50٪ مِن السّكان مِن الفقر نتيجة الأزمة الاقتصادية. لكن الأرقام الأخيرة مِن قبل لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) كشفت أنّ مُعدّل الفقر ازداد سوءًا منذ شهر مايو حيث يعيش حاليًّا 55٪ مِن السكّان في الفقر. ويتوقَّع وزير الاقتصاد بأن يصل هذا الرقم إلى 60٪ بنهاية عام 2020. هذا وتُشير حقيقة مُروّعة أخرى مِن تقرير الإسكوا (UNESCWA) إلى زيادة مُقلقة في نسبة الفقر المدقع من 8.1٪ عام 2019 إلى 23.2٪ في شهر مايو الماضي.

من الجدير بالذِّكر أنَّ الحكومة اللبنانية تتَّجه إلى خفض النفقات العامَّة في الوقت الذي تحتاج فيه إلى إعادة تخصيص أموالها لضخّها في الخدمات العامة. لذا يتعيَّن على الحكومة بدلًا مِن قطع الخدمات التقليل مِن هدر القطاع العام والاستثمار في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد اللبناني ولا سيما الزراعة. ورغم أنَّ لبنان يعتمد أيضًا على الاستيراد في الوقود والأدوية فإنَّه يجب على الأقلّ أن يبحث عن حلّ دائم لأزمة الأمن الغذائي التي تستلزم إعادة توزيع الأموال العامَّة مع التركيز على دعم الصناعات المحلية. إن حلّاً كهذا لن يخلق فرص عمل في القطاعات الإنتاجية ويحفز الإنتاج المحلي فحسب بل سيضمن أيضًا الحدّ من قلق السُّكان حيال تعرُّضهم للجوع في وقتٍ قريب.

مِن الواضح أنّه يُمكن أيضًا للمجتمع الدولي أن يلعب دورًا حاسمًا في تخفيف ما يُمكن أن يصبح أزمة غذائية عاصفة. فقد زاد برنامج الأغذية العالمي طاقته في لبنان في أعقاب الانفجار وسلّم شحنات وطروداً غذائية للأسر المُتضرِّرة. ورغم أهمية هذه الاستجابة قصيرة الأجل فإنّ الدعم الدولي يجب أيضًا أن يتمتّع برؤية طويلة المدى تركّز على السيادة الغذائية وتعزيز الإنتاج المحلي ودعم حقوق العمالة.

وكمثالٍ على ذلك أطلق المُقرِّر الخاص في الأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء السيد مايكل فخري دعوات جديدة للصندوق الدولي للتنمية الزراعية كي يساعد في تأسيس «بنك أهلي للتنمية الزراعية»، مما سيُساعد المزارعين اللبنانيين على بيع مُنتجاتهم سواء محليًّا أو إقليميًّا كما سيُساعد السّكان ككل على تحمّل عبء الأزمة الاقتصادية المُتفاقمة في البلاد. كما أشار أيضًا السيد مايكل إلى أنّ زيادة الإنتاج مع وجود هذا النَّوع من الدعم ستُنشئ «مخزونًا احتياطيًّا طويل الأجل» من المواد الغذائية الأساسية التي يُمكن حينئذٍ توفيرها مجانًا أو بأسعارٍ مدعومةٍ من الحكومة.

لبنان لا يتضوَّر جوعًا كما تدَّعي بعض الصُّحف، لكن مواجهة أزمة الأمن الغذائي مع عدم وجود رؤيةٍ واضحةٍ للتخفيف من حدّتها أمر يدعو بالضرورة إلى القلق.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…