قروض مدعومة للأثرياء: عن تطويع القانون في قضية نجيب ميقاتي 

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد عن الرئيس الحالي لحكومة تصريف الأعمال في لبنان، نجيب ميقاتي


يَبرُز الفساد كأحد أهم أسباب الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ سنوات في لبنان، والتي هوت بمعظم السكان تحت خط الفقر، حيث تغيب المحاسبة عن الجرائم، خصوصًا تلك التي يرتكبها السياسيون والمسئولون الحكوميون. 

إلا أنه في عام ٢٠١٩، ومع اندلاع ثورة أكتوبر (تشرين)، خرج إلى النور أول ادعاء قضائي في تاريخ البلاد تحت قانون الكسب غير المشروع ضد مسئول في الدولة متهمًا النائب البرلماني حينئذ ورئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي نجيب ميقاتي وعدد من أقربائه بالحصول على قروض سكنية مدعومة بالمخالفة للقانون.

نحاول في هذا المقال تحليل نتائج تلك القضية، واستبيان الوسائل التي يتم من خلالها تكريس الفساد من خلال الأطر القانونية، وفي أروقة القضاء.

الرجل 

في أكتوبر ٢٠١٩، وجهت القاضية غادة عون، النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، تهمة الإثراء غير المشروع إلى نجيب ميقاتي وابن شقيقه عزمي طه ميقاتي ونجله ماهر نجيب ميقاتي وبنك عوده. ويعود سبب الادعاء إلى حصول مجموعة شركات ميقاتي التجارية على قروض سكنية مدعومة من مصرف لبنان.

ولم يكن نجيب ميقاتي في تاريخ الادعاء رئيسًا للحكومة، لكن شبهة تورطه في فساد لم تمنع تكليفه بتشكيل الحكومة في يوليو ٢٠٢١، أي قبل انتهاء القضية. 

يمتلك ميقاتي إمبراطورية أعمال في لبنان وخارجها، حيث أسس في الثمانينات شركة إنفست كوم والتي تعمل في قطاع الاتصالات بالأساس، وثروة ضخمة تقدر بنحو ٢,٨ مليار دولار جعلته السابع في قائمة الأغنياء العرب بحسب مجلة فوربس الأمريكية.

انتُخب ميقاتي سنة ٢٠٠٠ نائبًا عن طرابلس، أفقر المدن اللبنانية، حتى عام ٢٠٠٥، وأُعيد انتخابه عام ٢٠٠٩. وأُسندت إليه عدة حقائب وزارية في الفترة من ١٩٩٨ حتى ٢٠٠٤.

وكُلّف برئاسة الحكومة أربع مرات، كلها في أثناء أو عقب أزمات. الأولى كانت بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في ٢٠٠٥، والثانية بعد إطاحة حزب الله وحلفائه بالحكومة في ٢٠١١، ومرتين في أثناء الأزمة الاقتصادية، الأولى في يوليو ٢٠٢١ والثانية في يونيو ٢٠٢٢ التي لا يزال يرأسها كحكومة تصريف أعمال حتى الآن.

القانون

صدر أول قوانين لمكافحة ومعاقبة الإثراء غير المشروع في خمسينيات القرن الماضي، وعُدّل عام ١٩٩٩، إلا أنه لم يُطبق بشكل فعّال حيث كان مليئًا بالثغرات وغير متوافق مع المعايير الدولية. 

وكنتيجة لِثورة ١٧ أكتوبر (تشرين)، وبِضغط من الرأي العام، صدر القانون رقم ١٨٩ عام ٢٠٢٠ ليعدّل تعريف الإثراء غير المشروع ويجعله أكثر شمولا ووضوحا حتى ينطبق على أي شخصٍ يتولّى أي عملٍ لصالح الدولة اللبنانية ويتعامَل مع الأموال العامة. ويخضع لأحكام القانون مُوظّفو القطاع العام وأعضاء القوات المُسلّحة ومستشارو الوزراء والعُمّال المُؤقّتون والشركات المُتعاقدة مع الدولة.

وتم إقرار القانون الجديد بعد صدور الادعاء بحق ميقاتي وأقرباءه. 

الادعاء

ظهرت مسألة القروض لأول مرة في العلن في يوليو ٢٠١٨ حين نشرت صحيفة المدن مقالًا كشفت فيه أن المجموعة المملوكة لنجيب ميقاتي وشقيقه طه حصلت على عدد من القروض المدعومة من مصرف لبنان عن طريق بنك عوده بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٣. وتُخصّص هذه القروض لتملك المسكن الأول فقط للأفراد أصحاب الدخل المحدود والمتوسّط.

وذكر الادعاء أن المتهمين خالفوا المادة الأولى من قانون الإثراء غير المشروع رقم ١٥٤ الصادر عام ١٩٩٩ عن طريق الحصول على قروض سكنية مدعومة من مصرف لبنان لغايات تجارية.

الرد

جاء رد ميقاتي على الادعاء سريعًا: ”تفاجأت بقرار القاضية غادة عون وبالتوقيت، والرسالة وصلت بأن الكيل طفح مني لأنني مدافع عن مقام رئاسة الوزارة، وأنا تحت سقف القضاء ولا علاقة لي بالموضوع.“ 

أُحيل الادعاء إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت، وكرر ميقاتي نفيه للتهم، مؤكدًا أن القروض المذكورة تجارية عادية وليس لها علاقة بالمال العام. وتأكيدًا لثقته في براءته، قال أنه ”أصر على الحضور شخصيّا رغم أن الجلسة الأولى عادة تكون لحضور المحامين.“

إسقاط الدعوى بدون تحقيق؟

وظلت القضية مفتوحة حتى فبراير ٢٠٢٢ عندما أصدر قاضي التحقيق في بيروت، شربل أبو سمرا، قراره بإسقاط دعوى الإثراء غير المشروع عن نجيب ميقاتي، الذي كان يشغل رئاسة الحكومة في ذلك الوقت، وأقرباءه، وكذلك بنك عوده. 

وتم تبرير إسقاط الادعاء على أساس إجرائي – وهو مرور الزمن – بدون إجراء تحقيقات في صلب موضوع الدعوى، وبالتالي لم يتم تحديد ما إذا كان المتهمون ارتكبوا الجرائم المذكورة أم لا. 

يقضي مبدأ مرور الزمن في قانون العقوبات اللبناني بسقوط الجرائم بعد انقضاء مدة معينة من دون اتخاذ إجراءات قانونية، ومن ثم لا يعود بالإمكان تحريك الادعاء والسير بإجراءات الملاحقة والمحاكمة. وحدد القانون المدة بعشر سنوات لسقوط الجناية وثلاث سنوات للجُنحة، وهو ما ينطبق على قضية ميقاتي، وسنة للمخالفة.

والمبرر وراء مبدأ مرور الزمن هو أن انقضاء مدّة طويلة على وقوع جرم يدخله في عالم النسيان وتصبح طرق الإثبات أصعب والعبرة من العقاب أخف. ويمكن للمشرّع استثناء بعض الجرائم من مرور الزمن أو تحديد مدّة أخرى أو توقيت مختلف لبدء سريانها.

وتختلف طرق تحديد تاريخ بدء سريان مرور الزمن: في الجرائم الآنية تبدأ المدّة من تاريخ وقوع الجريمة، أما في الجرائم المستمرّة فلا تبدأ إلا من تاريخ انتهاء الحالة الجرمية.

إلا أن تعديل قانون الإثراء غير المشروع عام ٢٠٢٠ اعتبر أن تلك الجرائم لا تخضع لمرور الزمن بسبب خطورتها، وأيضًا لصعوبة تحريك الدعاوى ضد الأشخاص النافذين أثناء تولّيهم مناصب رفيعة في الدولة.

لكن الدعوى ضد نجيب ميقاتي قامت قبل تعديل القانون، فهل يسري عليها؟

الثغرة

تنص المادة ٥ من قانون العقوبات اللبناني على أنه ”إذا عدل قانون مدة مرور الزمن على جرم جرت هذه المدة وفاقًا للقانون القديم“. 

وذلك يعني أنه برغم صدور القانون الجديد عام ٢٠٢٠ يبقى المطبّق هو قانون ١٥٤/١٩٩٩. وكان يتعين على من صاغ تعديل القانون عام ٢٠٢٠ أن يسد هذه الثغرة بشكل كلي عن طريق إضافة مادة تفيد بسريان القانون على الجرائم المرتكبة، والملاحقات التي بدأت حتى قبل صدور هذا القانون. 

وبذلك فالقانون الذي طُبّق في القضية هو رقم ١٥٤/١٩٩٩ .

وتنص المادة ١٩ من هذا القانون على أن مهلة مرور الزمن في الجرائم المتعلقة بالمال العام تبدأ من وقت اكتشاف الجريمة، وليس من وقت وقوعها كما هي القاعدة.

وبالتالي كان يفترض احتساب المهلة منذ أول كشف للمسألة في يوليو ٢٠١٨، وأن تظل لمدة ثلاث سنوات بدون ادعاء حتى تسقط. لكن ذلك لم يحدث لأن التهمة وُجهت في أكتوبر ٢٠١٩، أي بعد مرور حوالي سنة وأشهر قليلة على اكتشاف الجرم، ومن ثم لم يسقط الجرم بمرور الزمن.

إلا أن القاضي أحتسب المدة من تاريخ إصدار آخر قرض في فبراير ٢٠١٣، وبذلك اعتبر أن مهلة مرور الزمن اكتملت في فبراير ٢٠١٦.

فما سبب قرار القاضي؟

عام أم خاص؟

لم يعلل قرار القاضي صراحةً كيف توصل إلى إسقاط الملاحقة بمرور الزمن، لكننا نستطيع استنباط الأسباب إذا فهمنا كيف يتم صدور القروض المدعومة من مصرف لبنان المركزي.

يقوم البنك، في هذه الحالة بنك عوده، بإصدار قرض عادي، لكن بسعر فائدة أقل من سعر الفائدة في السوق، ويقدمه للعميل المستحق للدعم. ثم يقوم مصرف لبنان المركزي بعد ذلك بتعويض البنك فارق سعر الفائدة، وبذلك يكون المال العام هو من يتحمل عبء الدعم وليس المال الخاص. 

وبالنظر في قرار قاضي التحقيق، نجد أن المستندات المبرزة من بنك عوده، تشير إلى أن القروض تم إصدارها من أموال الاحتياطي الإلزامي للبنك، ومن ثم فالأموال ”موضوع الادعاء ليست بأي حال من الأحوال أموالاً عامة.“

لذلك اعتبر القرار بأن سريان مرور الزمن، وهو ٣ سنوات، يبدأ من تاريخ إصدار آخر قرض في عام ٢٠١٣، وليس من تاريخ اكتشاف الجرم، كون هذه القاعدة تطبّق فقط على الجرائم المتعلقة بالمال العام كما ذكرت المادة ١٩ من القانون. 

قرض تجاري لشراء منزل!

ورد في قرار قاضي التحقيق أن المدعى عليه عزمي طه ميقاتي قال أثناء استجوابه إنه ”استحصل على قرض سكني واحد باسم شركة كلاودز لاند، وأن هذا القرض هو قرض تجاري لشراء منزل.“ 

فكيف تحصل شركة على قرض تجاري سكني؟ ولشراء منزل؟ وكيف لشركة يملكها شخص من أثرى أثرياء الشرق الأوسط أن تستحصل على قروض مدعومة موجهة لمحدودي الدخل؟

وكيف لا تُعتبر تلك القروض أموالًا عامة، وهي المفترض أنها مدعومة من المصرف المركزي؟

والسؤال الأهم، هل استغل القائمون على الشركة نفوذ نجيب ميقاتي للحصول على تلك القروض؟

هذه الأسئلة الأساسية، وغيرها، لم تلق جوابًا في قرار قاضي التحقيق.

من يمثل الحق العام؟

تجدر الإشارة هنا إلى أن النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، وهي المنوط بها تمثيل والدفاع عن الحق العام، هي من طالب بإسقاط الادعاء بسبب مرور الزمن. أي أنها تصرفت في مصلحة المدعى عليه. 

بالإضافة إلى ذلك، النيابة هي الوحيدة التي تملك الحق في استئناف قرار قاضي التحقيق في هذه الحالة، وبتخليها عن هذا الدور لم يعد بالإمكان تقديم أي طعن بهذا القرار.

ترحيب وخيبة أمل

لاقى قرار القاضي إشادة من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي حاول الإيحاء بأن تحقيقات قضائية متعمّقة أثبتت ”عدم وجود أي إثراء غير مشروع وعدم وجود أي مسّ بالأموال العامة،“ وهو ما لم يحدث إطلاقًا كون قرار قاضي التحقيق ليس حكمًا نهائيًا بالبراءة، فهو أصلا لم يسمح للقضية بالوصول إلى المحكمة للبحث الجدّي في مضمونها. 

على العكس، فقد احتوى قرار القاضي على مخالفات قانونية صارخة لنصوص قانونية واضحة لا يمكن تأويلها بشكل مختلف تتعلق بمرور الزمن كما بينّا أعلاه. 

كما أتى القرار كخيبة أمل في أول ادعاء على شخصية عامة وفقا لقانون الإثراء غير المشروع منذ عام ١٩٥٤، ليكرس نهج الإفلات من العقاب، ويحبط أي محاولات مستقبلية لتفعيل المحاسبة في جرائم الفساد. 

توصية

لا ننكر أن صدور القانون ١٨٩/٢٠٢٠ يعتبر خطوة إيجابيّة، خاصة أنه ألغى قاعدة مرور الزمن على جرائم الإثراء غير المشروع، ولكنه يبقى في حاجة إلى تعديل حتى يسري على الجرائم والملاحقات السابقة لصدوره. 

كما يتعين إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية والذي لا يزال حبيس لجان المجلس النيابي منذ عام ٢٠١٨، ومنع السلطة السياسية من التحكم في التعيينات والتشكيلات القضائية للمراكز الحساسة المتعلقة بالمحاسبة وخاصة فيما يتعلق بقضاة النيابات العامة والتحقيق. 

عمر طالب زميل غير مقيم في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط يعمل على قضايا المحاسبة والعدالة في لبنان.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…

يظل الاغتصاب الزوجي جريمة بدون عقاب في نظر القانون المصري، وكثيرًا ما تعجز النساء اللاتي يتعرضن…