أوضاع حرية التعبير في الجزائر

ظن الكثيرون أن الحراك الشعبي في الجزائر سيفتح الطريق نحو مجتمع أكثر حرية وتقدمية، إلا أن التطورات في مجالي حرية التعبير والصحافة خلال السنوات القليلة الماضية تشير إلى سيناريو مختلف


قام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في أواخر عام 2022 بإجراء تقييم لسجل حقوق الإنسان في الجزائر (كجزء من الاستعراض الدوري الشامل للأمم المتحدة أمام مجلس حقوق الإنسان) نتج عنه المطالبة بإزالة القيود على حق التعبير والتجمع وحرية الصحافة. إلا أنه بعد شهر واحد فقط من التقييم، أغلقت السلطات الجزائرية آخر وسيلة إخبارية مستقلة متبقية في البلاد، ”راديو إم“، واعتقلت رئيس تحريرها إحسان القاضي. وأثار اعتقال القاضي موجة إدانات واسعة، وتمت إحالة موضوع الاعتقال رسميًا إلى المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير.

وواصلت السلطات استهداف الصحفيين والمجتمع المدني على الرغم من الاحتجاجات المتزايدة من قبل الجماعات الحقوقية. في يناير 2023، علمت ”الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان“ بقرار حلها من قبل محكمة إدارية إثر شكوى تقدمت بها وزارة الداخلية، ولم يكن لدى الرابطة أي علم بالإجراءات القضائية، ولم تعلم بالحكم إلا عبر الإنترنت وبعد أشهر من صدوره. وفي أواخر فبراير، قامت السلطات رسميًا بحل جمعية ”تجمع – عمل – شبيبة“ (راج) وحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية، وهما الجماعتان اللتان لعبتا أدوارًا حاسمة في الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في عام 2019. في ذات الأسبوع، ألقت السلطات القبض على رؤوف فراح، أحد كبار المحللين في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، مع والده بتهمة ”تلقي أموال لتعكير صفو السلم العام“. وفي أغسطس 2023، حُكم على فراح بالسجن لمدة عامين. 

وقالت تقارير إعلامية أن اعتقال فراح ووالده كان جزءًا من تحقيق أوسع في ملابسات مغادرة ناشطة الجزائر على الرغم من منعها من السفر. وكانت الناشطة أميرة بوراوي قد هربت إلى فرنسا عبر تونس، وحكمت محكمة تونسية عليها غيابيا بالسجن 10 سنوات مطلع فبراير 2023.

قمع الحراك 

تأتي هذه التطورات في سياق محاولات السلطات كبح حركة ”الحراك“ الاحتجاجية التي اندلعت عام 2019، وتحجيم التغطية الإعلامية حولها.

وجاء الحراك في الجزائر متأخرًا عدة سنوات عن الاحتجاجات التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بداية من 2011، والتي ظن البعض أنها لن تطول الجزائر. والمفارقة أنه في حين كان جيران الجزائر، المغرب وتونس، موضع قلق دولي بسبب تراجعهما في مسار الاصلاح الديمقراطي، خرج مئات الآلاف داخل الجزائر وفي المهجر إلى الشوارع رفضًا لتجديد الفترة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. 

وتحولت الأنظار حينئذٍ نحو الجزائر، وأعلن بوتفليقة استقالته بعد عدة أشهر من بدء الحراك. واستمر الجزائريون في الاحتجاج ضد الفساد والقوانين التقييدية والبطالة، ناهيك عن القضايا والمظالم المشتركة الأُخرى التي يشتركون فيها مع ملايين المواطنين الآخرين في جميع أنحاء المنطقة. 

وتزامن مع ذلك تدهور مستمر في مجال حقوق الإنسان وحرية الصحافة. ففي أغسطس 2019، أفادت لجنة حماية الصحفيين أنه تم حظر ما لا يقل عن خمسة مواقع إخبارية مستقلة دون أي إخطار رسمي. وبالإضافة إلى اعتقال عدد من الصحفيين الجزائريين، واجه الصحفيون الأجانب أيضًا خطر الاعتقال والترحيل، بما في ذلك طرد مدير مكتب وكالة فرانس برس والصحفيين العاملين مع رويترز وTRT، مما دفع لجنة حماية الصحفيين إلى إصدار تحذير بشأن السلامة في أبريل 2019، حثت فيه الصحفيين على توخي الحذر أثناء أداء مهامهم.

وبحلول نهاية عام 2019، تم استهداف الصحفيين على نحو متزايد، حيث تم اعتقال سفيان مراكشي ووجهت إليه تهمة العمل مع وسائل إعلام أجنبية ”دون ترخيص والتهرب من السلطات الجمركية“. كما احتُجز سعيد بودور وعبد المنجى خلادي وعادل عزب شيخ رهن الحبس الاحتياطي على ذمة مجموعة من التهم، بما في ذلك ”التشهير ونشر أخبار كاذبة وإهانة السلطات“ و ”عرقلة حركة المرور“. ناهيك عن ذلك، اعتقلت السلطات رئيس تحرير صحيفة لو بروفينسيال (Le Provincial) مصطفى بن جامع وصادرت جهاز الحاسوب الخاص به، وحُكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر. كما حُكم على رسام الكاريكاتير عبد الحميد أمين بالسجن لمدة عام بتهمة إهانة الرئيس و”المساس بوحدة البلد وسلامة أراضيه” و”نشر منشورات تضر بالأمن القومي“، كما اُعتقل مراسل مراسلون بلا حدود خالد درارني بتهمة ”التجمع دون تصريح“.

على أي حال، لم يكن عام 2019 سوى بداية لسلسلة طويلة من الاعتداءات على الصحافة. ففي 17 مايو 2021، اعتقلت السلطات ما مجموعه 16 صحفيًا بسبب تغطيتهم مظاهرة في العاصمة. كما ألغت السلطات اعتماد بعض محطات الأخبار الدولية على مدار صيف عام 2021، بما في ذلك فرانس 24 والعربية.

ولم ترحم حملة القمع الموسعة حتى الجزائريين في المهجر. ففي مارس 2022، امتثلت إسبانيا لمذكرة الاعتقال الدولية التي أصدرتها الجزائر بحق أحد المعارضين للحكومة: ضابط الجيش السابق محمد بن حليمة الذي سُجن بمجرد وصوله إلى البلاد. وفي مايو 2022، واجه ما لا يقل عن ثلاثة من نشطاء الحراك، الذين يحملون الجنسية الكندية، حظرًا تعسفيًا للسفر ومُنعوا من مغادرة الجزائر. وفي تقريرها عن هذه الحالات، ذكرت هيومن رايتس ووتش أن ”الرسالة واضحة: على الجزائريين المنتقدين الاحتراس، أينما كانوا يقيمون.“

تزامنت هذه التطورات وغيرها مع الاستعراض الدوري الشامل للجزائر (المذكور في أول المقال) في أواخر عام 2022، والذي سمح للمجتمع الدولي بتقييم سجل حقوق الإنسان في البلاد. أشارت بعض الدول والجماعات الحقوقية إلى استخدام قوانين ذات صياغة مُبهمة لملاحقة الصحفيين والناشطين تحت ذريعة ”الأمن القومي“، مثل قانون الإعلام (رقم 12-05)، وقانون الجمعيات (رقم 12-06)، وقانون الأنشطة السمعية والبصرية (رقم 14-04). وعلى سبيل المثال، فقد أُستخدمت بعض هذه القوانين لإتهام الصحفي إحسان القاضي بـ”تلقي الأموال والدعم من مصادر أجنبية بغرض ممارسة الدعاية السياسية“ و”تقويض أمن الدولة والنظام العام“، ثم الحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات (اثنان منها مع وقف التنفيذ) في أبريل 2023، تم تشديدها إلى سبع سنوات في محكمة الاستئناف.

وباستثناء الاستعراض الدوري الشامل، لا تولِ القوى الدولية في العموم اهتمامًا كبيرًا بوضع حقوق التعبير في الجزائر. إلا أن هناك بعض الحالات التي يجدر الإشارة لها: على سبيل المثال، أعادت قضية أميرة بوراوي، التي حُكم عليها غيابيا بالسجن لمدة 10 سنوات، التوترات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا إلى الواجهة، حيث استدعت الجزائر سفيرها في فرنسا واتهمتها بالمساعدة في التخطيط لهروب بوراوي.

وفي بيان صدر مؤخراً، أدانت ماري لولور، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان، حملة القمع المتصاعدة، قائلة: ”بالنظر إلى تاريخ الجزائر الحديث، من الواضح أن القوانين الصارمة المتعلقة بالإرهاب ضرورية…ومع ذلك، من المخيب للآمال أن القوانين المصممة لمنع الإرهاب تبث الرعب في المدافعين عن حقوق الإنسان بسبب تعريفات فضفاضة وغامضة للغاية لما يشكل الإرهاب في قانون العقوبات“.

لا يزال الجزائريون متفائلين وصامدين، على الرغم من كل النكسات. ولعل ما قاله إحسان القاضي أثناء محاكمته يعبر عن وميض شعلة التغيير التي لا تنطفئ في الجزائر: ”لبست قمجة (قميص) وصباط (حذاء) جدد باش (حتى) نجي (نأتي) لسيدي محمد. مكنتش نستنى محاكمة عن بعد وماتشاورتش مع هيئة الدفاع ديالي (خاصتي) لكن اطلب الاستخراج ونخبرك بكل احترام انني في اضراب و سأقاطع المحاكمة“.

سامية الرزوقي: زميل سابق غير مقيم بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط. يتركز عملها حول حرية الصحافة في شمال أفريقيا، وخاصةً وضع النساء العاملات بالصحافة 

نُشر هذا التحليل في الأصل في العدد رقم 4 من النشرة الإخبارية لتطورات سيادة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يصدرها برنامج مؤسسة كونراد أديناور لسيادة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتعاون مع معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط TIMEP.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…