الصحفيون في مصر: بين مصيدة شغف المهنة وفخ سطوة النظام

يصور مصطفى الأعصر واقع الصحافة في مصر بعد اعتقال الصحفي كريم أسعد


يراودني سؤال صعب لم أستطع الوصول إلى إجابة مُقنعة له منذ بدأتُ دراسة الصحافة والعمل بها: ما الذي يدفعني للاستمرار في هذه المهنة؟ وما الذي يدفع آخرين إلى اختيار مهنة الصحافة بإرادة حرة وعن طيب خاطر؟ خاصة في بيئات العمل غير الآمنة والمضطربة وفي الدول المحفوفة بالمخاطر والتي تنظر أجهزتها الأمنية إلى الصحفي باعتباره عدوًا مباشرًا، وأنا هنا بالطبع لا أتحدث عن هؤلاء الذين يختارون الطريق الآمن والعمل مع المؤسسات التابعة للحكومات والتي تُدار من قبل ضباط الأمن، أو الذين يكتفون بنشر البيانات الحكومية التي تصلهم على هواتفهم النقالة في عمل أقرب للعلاقات العامة.

أعرف صحفيين سُجنوا لسنوات وتعرضوا للتعذيب أثناء الاعتقال، وآخرين أُصيبوا بطلقات نارية في أجسادهم، وصديق لي فقد عينه أثناء تصويره وتغطيته لاشتباكات مسلحة في إحدى مناطق الصراع، بعضهم قرر البُعد عن الدروب الشائكة، وطردَ الصحافة من حياته إلى غير رجعة، والبعض الآخر قرر الاستمرار رغم الأثمان الباهظة.

بت أنظر إلى الصحافة في بعض الأحيان على أنها فخ يبتلع أصحاب الضمائر اليقظة، وإلى الأنظمة الفاسدة على أنها مصيدة لهؤلاء الصحفيين، ينصبون لهم الشراك فيقع فيها الطيبون وهم يحاولون كشف الحقيقة وفضح الفساد والبحث فيما ورائيات الخبر، أشبه بفراشات ينجذبن إلى الضوء فيحترقن في لهيب المعيشة الضنك.

يوم السبت الماضي ١٩ أغسطس/آب، قُبض على الزميل الصحفي كريم أسعد من منزله، بعدما داهمته قوة من الأمن، واعتدوا على زوجته وهددوهما بإيذاء طفلهما الذي لم يُكمل عامه الثالث بعد، وأجبروا أسعد على حذف منشورين من صفحة “متصدقش“، وهي المبادرة الصحفية التي يعمل بها، والتي يتركز عملها على التحقق الإخباري والعمل الصحفي الاستقصائي المعمّق وتفنيد الأكاذيب والأخبار المضللة.

اختفى أسعد قسريًا واُحتجز في مكان مجهول، لأكثر من ٢٤ ساعة، حتى أعلن خالد البلشي، نقيب الصحفيين، على صفحته الشخصية أنه تواصل مع الجهات المعنية واطمأن على أسعد، وسيكون في منزله خلال ساعات، ثم تبع تدوينته بأخرى بعدها بساعة مُعلنًا عن خروج أسعد بالفعل وأنه في طريقه للمنزل.

أثناء مداهمة منزل أسعد بدون الحصول على إذن من النيابة العامة واعتقاله بطريقة غير قانونية، فضلًا عن التجاوزات بحق أسرته، ثم منعه من التواصل مع محاميه، كان الكاتب الصحفي والناشط السياسي أحمد دومة، أحد أبرز وجوه شباب ثورة ٢٥ يناير/ كانون الثاني ٢٠١١، يستعد لمغادرة محبسه، بعد صدور قرار بالعفو الرئاسي عنه، بعدما قضى في المعتقل ١٠ سنوات، معظمها في زنزانة انفرادية.

هذه الواقعة أعادتني إلى يوم ١٨ يوليو/ تموز ٢٠٢١، عندما صدر قرار إخلاء سبيلي وكذلك الصحفي معتز ودنان بعد ثلاث سنوات ونصف من الاعتقال، ومعنا الصحفي جمال الجمل، وفي اليوم نفسه قُبض على رئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق عبد الناصر سلامة، ليواجه الاتهامات المعتادة بالانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة، ويقبع عامًا كاملًا في الزنزانة نفسها التي غادرها معتز ودنان قبلها بساعات في سجن شديد الحراسة (العقرب ٢) بمنطقة سجون طره بالقاهرة.

فقبل أن يكتمل الاحتفاء بخروج أحد الصحفيين، يباغتنا النظام بالقبض على صحفي غيره في ذات التوقيت. حاول فريق “متصدقش” العمل بطريقة مهنية في بيئة غير آمنة، ولم يقدم أكثر من الدور الطبيعي المتوقع من الصحافة في ظروفها الطبيعية، حيث حاول البحث عن الحقيقة وكشفها وإخبار الجمهور وإعلامه بها، ولكن حتى هذا العمل لم يرضَ عنه الأمن.

كشف البيان الذي أصدره فريق تحرير “متصدقش” عن أن المسلحين الذين اعتقلوا أسعد، لم يسألوه قبيل اعتقاله سوى عن التغطية الصحفية على مدى الأيام السابقة لحادثة طائرة زامبيا، وهي طائرة خاصة أقلعت من مصر وتم إيقافها في زامبيا ليجدوا على متنها ٥.٧ مليون دولارًا أمريكيًا و١٢٧ كيلوجرامًا من سبائك الذهب، وبالتالي تم القبض على ستة مصريين كانوا على متن الطائرة في ظل تعتيم إعلامي متعمد حول هوياتهم أو أي معلومات أُخرى متعلقة بالطائرة.

نشر فريق “متصدقش” عددًا من الموضوعات للتحقق من صحة الأخبار المتعلقة بالطائرة، محاولين الكشف عن هويات المتهمين والوصول إلى أي معلومات مفيدة، ومعتمدين على أدواتهم في البحث والتدقيق وعلى المصادر المفتوحة في الوصول للمعلومة، وبالفعل تمكنوا من تتبع مسار الطائرة والكشف عن هويات المحتجزين وكان من بينهم مسؤولين عسكريين وضباط شرطة، وهو ما أثار حفيظة الأجهزة الأمنية فقرروا معاقبة منصة “متصدقش”.

وحسب البيان نفسه، فإن فريق “متصدقش”، واجهوا حملة تشويه شرسة وممنهجة، على مدار الأشهر السابقة لواقعة القبض على الزميل كريم أسعد، إلى جانب دعاوى تحريضية ضد المنصة والعاملين بها، وهو أمر غير مستغرب في ظل الصعوبات التي يعيشها الصحفيون في مصر، خاصة الذين يصرون على العمل الاستقصائي أو الميداني، في دولة مُصنفة ضمن الأسوأ في مؤشر الحريات الصحفية الصادر عن مؤسسة مراسلون بلا حدود لعام ٢٠٢٣، حيث تأتي مصر في المرتبة ١٦٦ من إجمالي ١٨٠ دولة.

تتزامن هذه الأحداث مع مخرجات الحوار الوطني التي رُفعت إلى مؤسسة الرئاسة، ومن بينها مشروع قانون حرية تداول المعلومات الذي تقدمت به منظمة حرية الفكر والتعبير، بعد أن تم مناقشته ضمن لجان المحور السياسي في الحوار الوطني.

وكان الرئيس السيسي قد أعلن بنفسه، في يونيو/حزيران الماضي، أثناء فعاليات المؤتمر الوطني للشباب ببرج العرب، أنه موافق على التوصيات التي تقع ضمن صلاحياته وسيُحيل التوصيات التشريعية إلى مجلس النواب، ويأتي ذلك بعدما استعرض المستشار محمود فوزي رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني أمامه ما حققه الحوار الوطني.

مصطفى الأعصر زميل غير مقيم في معهد التحرير لدراسات الشرق الأوسط يركز على حرية الصحافة والإعلام في مصر.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…