بالرغم من جهود تطويره، التعليم في مصر فضاء لصناعة التمييز الديني

تُسلط المقالة الضوء على تدريس الدين في المناهج وتأثير ذلك في خلق مناخ التمييز والتطرف الفكري، وتسعى إلى توضيح ذلك من خلال تحليل بعض الدروس، وقراءة سياسات تطوير المناهج الدينية التي أعلنت عنها المؤسسات الرسمية، وفيما إذا كانت قد أصبحت أكثر مدنية وتعزيزًا للتنوع الديني واحترامًا لثقافة حقوق الإنسان أم لا


Read this article in English here.

يُعتبر تديين العملية التعليمية ومساحة الخطاب الإسلامي المحافظ داخل حجرات الدراسة من أبرز الانتقادات التي يتم توجيهها لنظام التعليم في مصر، حيث مهّدت السياسات التربوية المتعاقبة لوزارة التربية والتعليم المشرفة على التعليم ما قبل الجامعي الطريق لصبغ المناهج التعليمية والإدارة المدرسية بالتوجهات الإسلامية، حيث تم إدراج الإسلام في كثير من جوانب التعليم العام ، خصوصًا مقررات التربية الدينية واللغة العربية والدراسات الاجتماعية، وبطريقة تحتفي بالقيم الإسلامية المحافظة على حساب معايير التعددية أو المعتقدات الدينية الأخرى، ناهيك عن دعم التمييز على أساس الدين. ومع تصاعد العمليات الإرهابية عقب إزاحة جماعة الإخوان المسلمين من سدة الحكم في 2013، أُضيفت لهذه القائمة من الانتقادات، دور التعليم في صناعة التطرف الفكري، وهو ما اعترفت به الحكومة ضمنيًا من خلال الحديث مرارًا وتكرارًا منذ العام 2014 عن إدخال إصلاحات في مجال التعليم والبحث العلمي، كأحد آليات مكافحة التطرف الديني، ومنها القيام بحذف بعض الدروس التي تحرض على العنف الديني.

يتسم النظام التعليمي في مصر بالتعددية، حيث يوجد نظام التعليم الديني الأزهري، والذي يدرس الطالب من خلاله المواد الدراسية الإسلامية بجانب باقي المواد، حيث تنتشر المعاهد الأزهرية في جميع أنحاء مصر، ويلتحق الطالب بعد إنهاء المرحلة الثانوية الأزهرية بالتعليم الجامعي في جامعة الأزهر أو إحدى الجامعات المصرية المدنية. وفي مقابل هذا النظام يوجد نظام التعليم العام، ويتضمن المدارس الحكومية والخاصة والدولية، ويخضع لإشراف وزارة التربية والتعليم. وتُعد مادة التربية الدينية في هذا النظام مادة إلزامية في سنوات التعليم ما قبل الجامعي، ويمكن لهذه المادة أن تؤثر في النجاح والرسوب، لكن لا تُضاف للمجموع الكلي للطلاب، حيث يدرس الطلاب المسيحيون مادة التربية الدينية المسيحية ويدرس الطلاب المسلمون مادة التربية الدينية الإسلامية، ولا يتم تدريس أية أديان أو معتقدات أُخرى. كما تتضمن بعض المواد الأُخرى، مثل مادتي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية، دروسًا دينية يتخللها بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والتاريخ والتراث الإسلامي

 حددت المادة 19 من الدستور الحالي (دستور 2014) أهداف التعليم، والذي جعلته حق لكل مواطن، وتشمل: بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز. بطبيعة الحال، من الضروري أن يتم تضمين هذه الرسالة في رؤية وأداء أضلاع مثلث العملية التعليمية الثلاثة: المنهج، المعلم، مناخ العملية التعليمية.

تُسلط المقالة الضوء على تدريس الدين في المناهج وتأثير ذلك في خلق مناخ التمييز والتطرف الفكري، وتسعى إلى توضيح ذلك من خلال تحليل بعض الدروس، وقراءة سياسات تطوير المناهج الدينية التي أعلنت عنها المؤسسات الرسمية، وفيما إذا كانت قد أصبحت أكثر مدنية وتعزيزًا للتنوع الديني واحترامًا لثقافة حقوق الإنسان أم لا.

التفوق الإسلامي

تُعتبر المناهج الدراسية من أهم عوامل نجاح العملية التعليمية، فهي مصدر المعرفة والقيم التي تريد الوزارة أن تغرسها في الطلاب. وتتسم المقررات الدراسية الحالية بثلاث صفات أساسية ميَّزت المحتوى التعليمي:

أولاً: تضمين المناهج التعليمية في مختلف المراحل الدراسية آيات قرآنية وأحاديث نبوية، يتم إجبار الطلاب من مختلف الأديان على مذاكرتها وحفظها والامتحان فيها، وتتضمن بعض هذه الدروس نصوصًا تخالف عقائد غير المسلمين، على سبيل المثال، تضمن أحد الدروس بمنهج اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي الآية: ”ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل الصالحات وقال إنني من المسلمين“. في المقابل، لم تتضمن المناهج الدراسية أي نصوص من الديانات والمعتقدات الأخرى، كما لم تتناول الشخصيات المسيحية أو اليهودية المصرية أو الأعياد والمناسبات المهمة للديانتين، وكذلك الأمر بالنسبة للمعتقدات غير الإبراهيمية والتي يدين بها قطاع من المصريين مثل البهائية. فقد تجاهلت مناهج التعليم الحقبة القبطية بشكل شبه كامل، على الرغم أن الكنيسة القبطية لعبت دورًا محليًا وعالميًا بارزًا في مواجهة الهيمنة الرومانية والبيزنطية آنذاك.

وتتناول بعض الدروس العلاقة بين المسيحيين والمسلمين من خلال المرآة الإسلامية. تُعد القصة القصيرة بعنوان ”الكنيسة نورت“ في منهج اللغة العربية للصف الثالث الثانوي نموذجًا لهذه الفلسفة، بالرغم من العنوان الجذاب للقصة لكن مركز الحدث هو المشاركة الوجدانية للمسيحيين في الاحتفال بشهر رمضان بما يحتله من مكانة دينية، حيث يُهنئ المسيحيون أشقاؤهم المسلمين بقدوم الشهر الفضيل. ويدور سياق القصة في نفس خط الكتاب الدراسي ككل، حيث أن أسس التعايش مرجعيتها الدين الإسلامي وسماحة المسلمين، ومن مظاهر هذا التعايش قيام المسيحيين بتهنئة المسلمين بأعيادهم، مع عدم وجود أية إشارة لقيام المسلمين أنفسهم بتهنئة المسيحيين، أو مشاركتهم المناسبات الدينية والاجتماعية!

ثانيًا: التأكيد على أن الإسلام هو المصدر الوحيد للفضائل، والقيم الإيجابية، على النحو الذي يُظهر الديانات الأخرى وكأنها تحض على ارتكاب الشرور، أو على أقل تقدير لا تتضمن ما يؤكد هذه الفضائل، أو أنها تمتلك نماذج جيدة للقيم الإنسانية. ورد بمنهج اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي، درس بعنوان ”استعن بالله“ تضمن حديث نبوي في سياق الدعوة لصون الإنسان لكرامته وعدم الوقوف ضعيفًا، كما تناول درس عن النثر في منهج اللغة العربية للصف الثالث الثانوي التكافل الاجتماعي في الإسلام. امتد هذا التوجه من الصدق إلى مشاكل البيئة، ومن التضامن الاجتماعي إلى الغذاء، وغيرها، وهو ما يُرسخ التمييز الديني، ويعطي أفضلية للإسلام على غيره من الديانات والمُعتقدات. ويرتبط بذلك بأن المناهج الدراسية تبنَّت فكرة أن الإسلام هو أساس قيمة الإنسان، وعلاقات المجتمع، وليس المواطنة أو الرابطة الإنسانية، وتكمن خطورة ذلك في وجود تيارات أخرى متشددة لا تعتقد في المساواة والمواطنة، فالحقوق هنا مرتبطة بالرؤية الدينية وتفسيراتها المتعددة، وليس بالدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

ثالثًا: التمييز على أساس الدين والتحريض ضد الآخر. على سبيل المثال، في كتاب التربية الدينية الإسلامية للصف الخامس الابتدائي، هناك وحدة بعنوان ”جند الله“ تتناول في سياقها الحديث عن استخدام الدين لتبرير حب الوطن والحديث عن حرب أكتوبر المجيدة لاسترداد سيناء، وهو أمر مقبول، ويمكن أن يكون إيجابيًا، لكن الدرس استند إلى ميراث ديني وتاريخي لليهود أثناء حياة نبي الإسلام محمد، وطردهم من المدينة، ليطلق تحذير من طبيعة اليهود الغادرة، وأوجه الشبه بين يهود المدينة المنورة الذين طردهم الرسول ويهود اليوم، وتضمنت التدريبات أنشطة تمييزية مثل: ”كلف تلاميذك بإعداد كلمة للإذاعة المدرسية بعنوان ”يهود الأمس هم يهود اليوم“، ”تجميع الآيات التي تتحدث عن خيانة اليهود“، ”اليهود لا عهد لهم“.

أكثر من مجرد منهج

في نفس السياق، يتضمن المناخ التعليمي كثيرًا من الممارسات التي تُرسخ التمييز على أساس الدين، من بينها تلاوة الآيات القرآنية في طابور الصباح في بداية اليوم الدراسي، وعدم وجود أماكن مخصصة لحصص الدين المسيحي، حيث يُجبر الطلاب المسيحيين على مغادرة الفصل في حصة الدين إلى فناء المدرسة، كما لا يوجد مدرسين مخصصين للتربية الدينية المسيحية، ويقوم بتدريسها مدرسو المواد الدراسية الأخرى، حيث لا يوجد بكليات التربية قسم لإعداد معلم التربية الدينية المسيحية.

كما يغلب الخطاب الديني على المناخ التعليمي داخل حجرات الدراسة، ومن خلال المنهج الخفي والنسق القيمي الذي يقدمه المعلمون الذين تم إعداد قطاع واسع منهم وتأهليهم من قبل تيار الإسلام السياسي، الذي خطط منذ عقود لإعداد معلمين منتمين إليه، وتجنيدهم للعمل كمدرسين بمجرد تخرجهم. فجماعة الإخوان المسلمين التي كانت تعد أكثر التيارات نشاطًا كان مؤسسها، حسن البنا، يعمل مدرسًا، وأدرك منذ البداية أهمية التعليم في تنشئة الفرد المسلم والمجتمع المسلم، الذي يمهد لهيمنة الجماعة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، ومن ضمن أشكال التأثير لهذه التيارات اختراق التنظيم النقابي لتكوين جماعات ضغط تُسهم في رسم السياسات التعليمية بل ومحاولة اختراق المؤسسات التي تقوم على وضع السياسات التعليمية وصياغتها ومراقبتها.

خطط منقوصة

بدأ الحديث عن تطوير التعليم، خصوصًا المناهج الدراسية، عقب الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين من السلطة في يوليو 2013، إذ أعلنت وزارة التربية والتعليم أنها ستبدأ في إعادة تطوير التعليم ومراجعة مناهج التعليم العام. وأعلنت عن استراتيجية ”الأمن الفكري“ لمواجهة التطرف والعنف في التعليم قبل الجامعي، ثم أصدر وزير التربية والتعليم محمود أبو النصر قرارًا بتشكيل لجنة من الوزارة لمراجعة بعض الكتب الدينية ومراقبة الموضوعات التي تروج للعنف أو التطرف أو تشير إلى أي انتماءات سياسية أو دينية أو أي مفاهيم يمكن ”إساءة استخدامها“.

نتيجة لذلك، قررت الوزارة حذف بعض المواضيع من منهج اللغة العربية للصف الخامس الابتدائي تضمنت تفاصيل مصورة ومصطلحات عنيفة تتعلق بالمعارك التي قادها قادة مسلمون مثل صلاح الدين الأيوبي وعقبة بن نافع، مثل حرق الأعداء. وفي مايو 2018، أعلنت وزارة التربية والتعليم عن تنفيذ ”المناهج الجديدة للتعليم قبل الجامعي“ تضمنت تطوير مناهج تُعزز الحريات الدينية وتنشر ثقافة التسامح وتقوي الهوية الوطنية. تضمنت المبادرة عدة محاور من أبرزها: تدريس منهج جديد ”القيم واحترام الآخرين: معًا نبني“، للصف الثالث الابتدائي، وتدريب المعلمين على تعزيز الحرية الدينية والتعايش ونبذ التعصب داخل وخارج الفصول الدراسية. كما تضمنت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021-2026) التي صدرت عن الحكومة بندًا عن قيام وزارة التربية والتعليم بمراجعة المقررات الدراسية الدينية وتنقيحها من أية موضوعات لا تُسهم في تعزيز التسامح في المجتمع، إضافة لإدراجها مقررًا دراسيًا عن الأخلاق يهدف إلى تعزيز المحبة والتآخي والتسامح وتقبل الآخر والمواطنة.

لا يمكن إنكار أن وزارة التربية والتعليم قامت بالكثير من التحسينات على المقررات الدراسية، وحذفت تلك التي تحض بشكل مباشر وصريح على العنف ضد المختلفين دينيًا، لكن لا تزال الفلسفة القائمة على وضع المناهج تمييزية وتُعلي من شأن الإسلام وتتجاهل الأديان والمُعتقدات الأخرى، لذا من الضروري الحد من تديين المناهج وتقليل الخطاب الديني بها، أو على أقل تقدير الالتزام بما يُعرف بمبادئ توليدو التوجيهية بشأن تدريس الأديان والمعتقدات في المدارس العامة كأساس معياري، حيث تستهدف المساهمة في تعميق وإدراك التعددية الدينية المتزايدة في العالم، والوجود المتنامي للدين في المجال العام، وبما يُسهم في الإعلاء من شأن المساواة وعدم التمييز والتعددية الدينية. كما أن مكافحة التطرف في التعليم لا يمكن اختصارها في حذف بعض الدروس، بل يجب أن تمتد إلى الإدارة والمعلمين والمناخ التعليمي، وهو ما يحتاج إلى أن يكون ترسيخ ثقافة التعددية وقبول الآخر الديني من ضمن فلسلفة التعليم، وقد يكون إشراك المجتمع المدني في عملية الإصلاح أحد الحلول الناجعة.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…