تحقيق جديد للمحكمة الجنائية الدولية في الهجمات الأخيرة في دارفور

قررت المحكمة الجنائية الدولية بدء التحقيق في الفظائع التي شهدتها، ومازالت تشهدها ولاية غرب دارفور منذ اندلاع الصراع في السودان في أبريل 2023. يستند التحقيق إلى الإحالة السارية التي أصدرها مجلس الأمن في عام 2005، وبالتالي هو مقتصر على منطقة دارفور. وعلى أية حال، لا يوجد ما يُشير إلى أن التنفيذ هذه المرة سيكون أسهل أو أكثر فعالية من تحقيقات المحكمة السابقة في السودان


أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في 13 يوليو عن آخر تحقيق أجراه مكتبه حول الانتهاكات التي شهدها إقليم دارفور خلال الحرب التي اندلعت في السودان في 15 أبريل 2023. ويُعد التحقيق الجديد خطوة مهمة نحو المساءلة، حتى وإن كان في مراحله الأولى، في ظل ضعف ردود الفعل الدولية تجاه الانتهاكات المستمرة غرب السودان.

 وقال خان: ”[تفويضنا] مستمر فيما يتعلق بالجرائم التي تدخل في نطاق ولايتنا القضائية، وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وسيتم التحقيق مع أي فرد يتبين أنه يرتكب تلك الجرائم ضمن ولايتنا القضائية“.

تاريخ من الصراع

شهد دارفور، وهو إقليم شاسع غرب السودان يضم خمس ولايات، فظائع وجرائم حرب منذ اندلاع الصراع عام 2003 بين الحكومة المركزية في الخرطوم وجماعات متمردة حملت السلاح رداً على التهميش التاريخي الذي تواجهه عدد من المجموعات العرقية في البلاد

وحينها، قاد عمر البشير، الرئيس السوداني الذي تمت الإطاحة به في عام 2019، حملة عسكرية كبيرة لقمع التمرد، اعتمد فيها على حشد القبائل العربية للقتال بجانب قواته. إلا أن هذا التحالف لم يحارب التمرد فقط، ولكنه استهدف أيضاً، وبشكل منهجي، الجماعات والقبائل غير العربية التي استمد منها المتمردون كوادرهم، متلاعبًا بالانقسامات العرقية التاريخية في المنطقة. واعتمدت الحكومة في حملتها بشكل رئيسي على تعبئة الجنجويد، وهم مقاتلون مسلحون ينتمون إلى القبائل العربية.

نتج عن تلك الحملة فظائع مروعة أودت بحياة ما يقرب من 400 ألف شخص، وهو ماجذب الكثير من الاهتمام الدولي والإقليمي، ودفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2005. سمحت هذه الإحالة، المستندة إلى القرار رقم 1593 في 31 مارس 2005، للمحكمة الجنائية الدولية بممارسة اختصاصها القضائي على الجرائم المدرجة في نظام روما الأساسي المُرتَكبة في إقليم دارفور بالسودان، ”اعتباراً من 1 يوليو 2002 فصاعداً“.

والأهم من ذلك، أن قرار الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية تم إصداره بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح لمجلس الأمن بتقرير إذا ما كان ”وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاًً من أعمال العدوان“. ولذلك أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال على مدار سنوات بحق خمسة أفراد، بما في ذلك الرئيس السابق البشير، لوجود أدلة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم إبادة جماعية. 

وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية في 9 يونيو 2021 أن زعيم الجنجويد السابق علي محمد علي، المعروف باسم علي كوشيب، قد سلّم نفسه إلى المحكمة، وبدأت محاكمته في 5 أبريل 2022، حيث واجه 31 اتهام بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

دارفور والدعم السريع

عندما بدأ الاقتتال بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في الخرطوم في 15 أبريل 2023 تحولت الأنظار سريعًا إلى دارفور حيث خشي المراقبون من تكرار الفظائع التي شهدها الإقليم قبل عقدين من الزمن. 

وكانت ولاية غرب دارفور على وجه الخصوص مركزًا لجرائم جسيمة ارتكبتها قوات الدعم السريع والميليشيات العربية في حق العرقيات الأخرى، ولا سيما الجرائم المرتكبة ضد قبيلة المساليت، وهي إحدى الجماعات الرئيسية غير العربية في المنطقة. وأفادت التقارير بمقتل الآلاف في غرب دارفور منذ نهاية أبريل 2023، كما استهدف المهاجمون المدنيين النازحين وأضرموا النار في أماكن سكنهم. وبلغ عدد النازحين في مختلف أنحاء البلاد ما يزيد عن 5 ملايين شخص منذ اندلاع الصراع، منهم ما يقرب من 450 ألف شخص من غرب دارفور وحدها، بحسب تقارير الأمم المتحدة.

وجاء تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في أعقاب تلك الانتهاكات. ويقتصر التحقيق على إقليم دارفور فقط لأنه مبني على الإحالة السارية لمجلس الأمن، وبالتالي فإن الجرائم المرتكبة في مدن أخرى، مثل الخرطوم، تقع خارج نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

التعاون المفقود

دائمًا ما كان التحدي أمام عمل المحكمة الجنائية الدولية في السودان هو مسألة تعاون السلطات المحلية. على سبيل المثال، رفض البشير رفضًا قاطعًا سلطة المحكمة الجنائية الدولية ومذكرات الاعتقال الصادرة بحقه واثنين من مساعديه في عام 2008. 

في واقع الأمر، تُلزم المادة 86 من نظام روما الأساسي الدول الأطراف بالتعاون في التحقيق في الجرائم التي تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ومحاكمة مرتكبيها. بالإضافة إلى ذلك، فإن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أحال قضية دارفور إلى المحكمة يؤكد الحاجة إلى تعاون الجهات الفاعلة المحلية. وعلى الرغم من أن السودان من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي منذ عام 2000، وهي المعاهدة التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه لم يصادق عليها بعد. ووافقت الحكومة الانتقالية السودانية السابقة، التي تشكلت بعد الإطاحة بالبشير عام 2019، على تعزيز التعاون مع لاهاي. كما وفّر اتفاق سلام لاحق بشأن دارفور، تم التوقيع عليه في عام 2020، أساسًا واضحًا للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية كجزء من مصفوفة العدالة الخاصة بها. 

وفي يناير 2021 زار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، الخرطوم ووقع مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون مع السلطات السودانية. كما أعلنت الحكومة الانتقالية في أغسطس 2021 أنها ستصادق على نظام روما الأساسي، لكن الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 غيّر أولويات الدولة، مما حال دون مصادقتها عليه. 

لم يُحرز السودان أي تقدم ملموس في هذا الصدد، حيث كان تجاوبه بطيئًا وغير كافٍ، بحسب التقارير.

 في 16 يونيو 2020، أكد النائب العام السوداني مجددًا ضرورة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، لكنه أشار أيضًا إلى أنه قد يكون من الضروري إجراء المحاكمات داخل السودان. وعلى الرغم من عدم تحقيق أي خطوات ملموسة لاحقة تتعلق بهذا الخيار، أثار هذا الطرح تساؤلات حول التحديات القائمة أمام نظام الادعاء والقضاء الوطني في السودان لضمان وجود إجراءات قضائية فعالة ومحاكمة عادلة. فمن ناحية، لم تنص القوانين السودانية، ولا تزال، على مبدأ مسؤولية القيادة، وهو مبدأ أساسي يسمح للسلطة القضائية بمحاسبة القادة على الجرائم المرتكبة، وليس فقط الجُناة المباشرين الذين كانوا ينفذون أوامر رؤسائهم. كما تغيب العديد من المعايير الجوهرية، بما في ذلك المتعلقة بحماية الشهود. 

علاوة على ذلك، فإن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، رغم أنها مدرجة في القانون الجنائي لعام 1991 (المعدل في عام 2009)، إلا أن تعريفاتها غير كافية. على سبيل المثال، يتم تعريف جريمة الإبادة الجماعية بشكل أضيق مما هو عليه في القانون الدولي، أما جرائم الحرب والمعاملة اللاإنسانية والعنف الجنسي والحرمان من المحاكمة العادلة والاستعباد الجنسي، فهي إما غائبة أو منقوصة.

وفي أعقاب الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021 تبددت الفرصة السانحة للمضي قُدمًا في مسار العدالة. سافر خان مرة أخرى إلى الخرطوم في أغسطس 2022، بعد عام تقريبًا من وقوع الانقلاب، وزار دارفور هذه المرة، والتقى بالنازحين، ووقع مذكرة تفاهم مع قادة الانقلاب لتسهيل مزيد من التعاون في محاكمة كوشيب، الذين أكدوا التزامهم بالتعاون معه. ومرة أخرى، لم تُسفر التزامات القادة السودانيين عن إحراز أي تقدم ملموس. في يناير 2023، أخطر خان مجلس الأمن الدولي بأن السودان لا يفي بالحد الأدنى من متطلبات التعاون، وأن السلطات السودانية كانت تُقيد الوصول الفعلي إلى الوثائق والشهود وتتجاهل طلبات المساعدة والموافقات.

وفي حين أن التحقيقات الجديدة لا تزال مدعومة بإحالة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموجب الفصل السابع، إلا أنه ليس هناك ما يشير إلى أن التنفيذ سيكون أسهل هذه المرة. هناك حاجة ماسة إلى مزيد من الدعم الإقليمي والدولي لجهود المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك من خلال توفير الموارد التي تشتد الحاجة إليها، وكذلك الدعم السياسي للضغط من أجل تعاون أفضل بغية تحقيق النتائج المأمولة. 

ستعمل المحكمة الجنائية الدولية مُجددًا في بيئة معادية، وهذه المرة، تبدو الجهود الدولية الرامية لمعالجة خطورة الوضع الحالي مخيبة للآمال، رغم أن دارفور كانت ذات يوم محور اهتمام العالم ومحط أنظاره. 

محمد عثمان: زميل غير مقيم في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، يتركز عمله حول الحوكمة والمساءلة والعدالة في السودان، كما يعمل باحثًا في قسم أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش منذ عام 2018.

نُشر هذا التحليل في الأصل في العدد رقم 4 من النشرة الإخبارية لتطورات سيادة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يصدرها برنامج مؤسسة كونراد أديناور لسيادة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتعاون مع معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط TIMEP.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…