الآثار الخفية الجائرة لمصادر المياه غير الرسمية في لبنان

ظهرت أولى صهاريج المياه غير الرسمية في لبنان في السبعينيات تقريبًا. في الوقت الحالي، تعاني البنية التحتية في لبنان من نقص في المياه كمًا ونوعًا، في ظل عقود من سوء الإدارة في القطاع العام.


Read English version here.

يعاني لبنان من انقطاع في المياه ضمن شبكات الإمدادات الرئيسية في البنية التحتية، مما يعني عدم توفر المياه في الصنابير المنزلية على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع. ولذلك، تعتمد المنازل على بدائل مائية من مصادر غير رسمية لتلبية احتياجاتها اليومية، بما في ذلك مياه الشرب والحمامات والتنظيف وسواها.

 من حيث المبدأ، تتم تغذية بيروت بالمياه عن طريق مصدرين رئيسيين: أكبرهما محطة معالجة المياه الشمالية في منطقة الضبية التي تقع على بعد 15 كيلومترًا شمال العاصمة، وتغطي حوالي 80% من استهلاكها المائي. أما المصدر الثاني فهو مركز لجمع المياه من مجموعة آبار في منطقة الناعمة، التي تقع على بعد 20 كيلومتراً جنوب بيروت، ويغطي النسبة المتبقية من الاستهلاك أي 20%. وعادة ما يتم ضخ المياه من هذه المواقع إلى خزانات مختلفة ضمن بيروت من أجل التخزين قبل التسليم النهائي. ولكن على الرغم من ذلك، لا توفّر هذه الخزانات المياه بشكل دائم. في المحصلة، تصل المياه إلى المنازل بمعدل ثلاث ساعات يوميًا خلال الأوقات العادية في الصيف، بينما تصل مدة التغذية إلى سبع ساعات في فصل الشتاء.

ظهرت أولى صهاريج المياه غير الرسمية في لبنان في السبعينيات تقريبًا. في الوقت الحالي، تعاني البنية التحتية في لبنان من نقص في المياه كمًا ونوعًا، في ظل عقود من سوء الإدارة في القطاع العام. كما تفقد الشبكة ما يصل إلى 45% من المياه بسبب التسرب، ناهيك عن خطر تلوث المياه نتيجة تسرب مياه البحر ومياه الصرف الصحي. وساهمت الأزمة الاقتصادية والمالية التي عانت منها البلاد في السنوات القليلة الماضية في تفاقم الوضع أكثر فأكثر. فعلى سبيل المثال، عانى الناس من انقطاع تام في إمدادات المياه من أنابيب البنية التحتية الرئيسية دام عدة أسابيع هذا الصيف بسبب النقص في التغذية بالكهرباء اللازمة لضخ المياه إلى مناطق مختلفة. ونتيجة لسنوات طويلة من الإهمال، اعتمد السكان في لبنان على أشكال مختلفة من المصادر غير الرسمية للمياه، بما في ذلك الصهاريج والآبار والمياه المعبأة. وفي حين أن هذه المصادر غير الرسمية تفي بالغرض على مستوى توفير المياه وتساعد المجتمعات على تأمين احتياجاتها المائية اليومية، إلا أنه يترتب عليها آثار اجتماعية واقتصادية وصحية وبيئية سلبية. كما أنها تؤدي، بشكل مثير للقلق، إلى ظلم اجتماعي لأنها تُثقل كاهل المجتمعات ذات الدخل المنخفض على نحو غير متكافئ.

التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية

تعتمد تكلفة المياه التي يتم ضخها عبر أنابيب البنية التحتية على رسوم الاشتراك الرسمية: تدفع الأسر اللبنانية سعرًا موحدًا يبلغ 200 دولار سنويًا للمتر المكعب الواحد في اليوم. ومع ذلك، لا يحصل السكان على الكمية المستحقة من المياه على أساس يومي بسبب انقطاع المياه في البنية التحتية، فيترتّب عليهم دفع تكاليف إضافية ثمن المياه من المصادر الإضافية غير الرسمية. وهناك إجماع عام بين مخططي إمدادات المياه على أن القدرة على تحمل تكاليف المياه مقارنة بنسبة التكلفة إلى الدخل يجب ألا تتخطى عتبة تتراوح بين 3 و5% من الدخل؛ وهذا يعني أن السكان يتحصلون على المياه بأسعار ميسرة إلى حد ما طالما أنهم يدفعون أقل من 5% من دخلهم لقاء ذلك.

وبهدف تقييم نسبة التكلفة إلى الدخل في مدينة بيروت، أجريت في العام 2019 مسحًا شمل 100 أسرة لبنانية من مستويات اجتماعية واقتصادية مختلفة في منطقتي فردان وعائشة بكار في بيروت. وأظهر المسح أن نسبة التكلفة إلى الدخل لإجمالي مصادر المياه – الرسمية وغير الرسمية – بلغت حوالي 6%، مما يعني أن مصادر المياه كانت باهظة الثمن في بيروت. بالإضافة إلى ذلك، تعكس هذه النسب تفاوتًا صارخًا، حيث يدفع ذوو الدخل المنخفض تكاليف أكثر بـ 2.2 مرة مقابل المياه مقارنًة بذوي الدخل المرتفع: دفعت المجتمعات ذات الدخل المنخفض حوالي 10% من دخلها للمياه، في حين بلغت مدفوعات ذوي الدخل المرتفع 4% فقط. ويفسر انخفاض الأجور وارتفاع إجمالي تكاليف المياه هذا التفاوت بين المجموعتين. وبالنظر إلى أن المسح أُجري قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية في العام 2019، يمكننا توقع زيادة في مستويات العجز عن تحمل التكاليف بشكل كبير اليوم بسبب عوامل متعددة، بما في ذلك انخفاض قيمة الليرة اللبنانية والتضخم في المستوى العام للأسعار.

الآثار الصحية لمصادر المياه غير الرسمية

دفعت التكاليف الإضافية والمرتفعة المواطنين لتطوير سلوكيات مختلفة للتأقلم مع الوضع الراهن قد تؤدي بدورها إلى آثار صحية خفية ومتفاوتة. على سبيل المثال، تعتمد المجتمعات ذات الدخل المرتفع بشكل كبير على أنظمة التناضح العكسي ذات التكلفة المرتفعة، والتي تتيح معالجة مياه الآبار قبل الاستهلاك. وأظهر المسح أن 17% من الأسر في المجتمعات ذات الدخل المرتفع تعتمد على وحدات التناضح العكسي، في حين لم يُسجل أي دليل على استخدامها في المجتمعات ذات الدخل المنخفض. وتعتبر هذه الوحدات ذات تكلفة مرتفعة جدًا، حيث تصل تكلفتها إلى حوالي 15000 دولار كاستثمار أولي، ناهيك عن تكاليف التشغيل والصيانة، مما يحول دون استخدامها من قبل ذوي الدخل المنخفض. وبالتالي، تتعرض الأسر التي لا تمتلك هذه الأنظمة بشكل مباشر لتلوث المياه الجوفية بسبب تسرب مياه البحر ومياه الصرف الصحي غير الُمعالجة، مما قد يؤدي إلى آثار صحية خطيرة بما في ذلك التعرض لبكتيريا القولون والإشريكية (العُصيات) القولونية، أو حتى لعدوى الكوليرا، الأمر الذي شاهدناه مؤخرًا في نشرات الأخبار. كما أن تسرب مياه البحر يؤثر بشكل غير مباشر على الأجهزة المنزلية للأسر ذات الدخل المنخفض، حيث تتلف الأجهزة بسرعة بفعل الملوحة الزائدة، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإصلاح والاستبدال. بالإضافة إلى ذلك، فآن المجتمعات ذات الدخل المنخفض تساوم على جودة مياه الشرب من خلال شراء عبوات مياه رخيصة مجهولة المصدر وجودتها غير مضمونة. وقد يؤدي ذلك إلى استهلاك هذه المجتمعات لمياه شرب تعرضت للتلوث الميكروبيولوجي.

التأثيرات البيئية

بشكل عام، يترتب على كل لتر من المياه آثار مرتبطة بالطاقة وبالبصمة الكربونية (انبعاثات الكربون)، لأن الطاقة ضرورية لمعالجة المياه وضخها لإيصالها إلى المنازل. ولا تُشكل مصادر المياه غير الرسمية أي استثناء في هذا السياق، حيث تستخدم الناقلات محركات الديزل، مما يعني أن المياه المنقولة بواسطة تلك الصهاريج تستخدم الطاقة وترتبط بانبعاثات الكربون. وجرت العادة أن تقوم الصهاريج بنقل المياه من الآبار الغنية بالمياه، والواقعة في ضواحي بيروت، إلى مناطق مختلفة ضمن العاصمة ومنطقة جبل لبنان. كما يتطلب ضخ المياه المعبأة ومعالجتها ونقلها الكثير من الطاقة، والحال سيان بالنسبة للآبار.

وتُسجّل المصادر غير الرسمية للمياه في لبنان، أعلى استخدام للطاقة وانبعاثات الكربون مقارنة بالبنية التحتية للأنابيب الرسمية. وهي ترفع من استخدام الطاقة بنسبة 83%، كما يُعزى إليها 72% من إجمالي انبعاثات الكربون للفرد في السنة. و من ضمن جميع مصادر المياه الأخرى، تُسجّل المياه المعبأة أعلى النسب بسبب احتياجات الطاقة العالية للمعالجة والنقل. ومع ذلك، ينتج تأثير غير ملحوظ عن نقل المياه عبر الصهاريج، حيث تُسهم هذه العملية في انبعاثات خفية إضافية ضارة من أكسيد النيتروجين والكربون الأسود والجسيمات. وتكمن المشكلة الرئيسية في ذلك في أن الناقلات تعمل عادًة داخل المدن وتطلق هذه الانبعاثات الضارة في المناطق المأهولة، مما يزيد من احتمالية إصابة السكان بأمراض الجهاز التنفسي.

من شأن العزوف المستمر للمؤسسات العامة اللبنانية عن تأدية وظيفتها وتغيّر المناخ أن يزيد من الاعتماد على مصادر المياه غير الرسمية. وتمثل هذه المصادر ضرورة لأنها تساعد المجتمعات على التغلب على النقص في المياه على أساس يومي. ومع ذلك، تترتب على هذا الاعتماد تكاليف متعددة عدا عن التفاوت في مستوى الوصول والقدرة على تحمل التكاليف والتأثيرات على الصحة. مما يعني أن أنظمة المياه الرسمية وغير الرسمية تعمل جنبًا إلى جنب: ففي حين أن المصادر غير الرسمية قد تملأ الفجوة في الحجم والجودة اللازمين، توفر البنية التحتية للأنابيب بشكل عام خدمة ميسورة التكلفة. ربما نحتاج أن نُفكر باستراتيجيات هجينة تعالج المصادر الرسمية وغير الرسمية على حد سواء. ونحن بحاجة إلى خطة شاملة تتناول نظام المياه ككل بأبعاد هيدروليكية وبيئية واقتصادية واجتماعية وقانونية وسياسية مختلفة، من أجل تطوير سياسات مستدامة وحلول قابلة للتطبيق.

ومع ذلك، قد يمثل تطوير مثل هذه الخطة تحديًا سياسيًا، لأن المؤسسات العامة في الدولة لم تطور رؤية شبيهة حتى اليوم، واقتصر استثمارها على مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، وغير القابلة للاستمرار اقتصاديًا وبيئيًا. وتتضمن بعض الأمثلة على ذلك، أكثر من 35 محطة معالجة لمياه الصرف الصحي في وضع غير تشغيلي (داخلية وعلى الساحل)، تم تشييدها دون أن يتم ربطها بشبكات الصرف الصحي، أو الشبكات الممدودة التي تفتقر إلى محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي. ويؤكد ذلك على ضرورة أن نفكر أيضًا في طرق أخرى لحل المشكلات المتعلقة بإمدادات المياه. ومن ضمن الأمثلة المقترحة، يمكن للاستراتيجيات اللامركزية الشاملة حماية السكان على المدى القصير؛ وهي تتضمن استخدام مجموعات اختبار تُستخدم في فحص جودة المياه الجوفية ومياه الشرب، أو المضخات الشمسية التي تسمح بالتقليل من انبعاثات الكربون عند ضخ المياه. ومع ذلك، هذه الحلول ليست مُستدامة على المدى الطويل، فهي تعتمد على روح المبادرة لدى المستخدمين النهائيين وقد تتسبب بزيادة في الأعباء المالية وفي عجز أكبر عن تحمل التكاليف وبالتالي بمخرجات غير عادلة.

ياسمينا شويري أخصائية في إدارة المياه والتصميم الحضري والبيئي ذات خبرة واسعة في المجال الأكاديمي والاستشاري.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…