السُبل المحلية للمساءلة في سوريا

بينما ترحب الحكومات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعودة نظام الأسد إلى الساحة الدولية، تُبرِز جهود مساءلته أمام المحاكم الأجنبية نضال السوريين المستمر منذ عقود من أجل تحقيق العدالة


تم الكشف مؤخرًا عن دعوى مدنية في الولايات المتحدة ضد الجمهورية العربية السورية بتهمة ارتكاب جرائم التعذيب بشكل واسع وممنهج في مراكز الاحتجاز. منح هذا الخبر بارقة أمل لبعض الناجين السوريين في الحصول على العدالة بعد سنوات طويلة أفلت فيها نظام الأسد من العقاب على الجرائم الشنعاء التي شهدتها البلاد منذ 2011.

وبالطبع، لم يواجه نظام الأسد المساءلة عن جرائمه حتى الآن سوى في المحاكم الأجنبية. وحتى هناك، تظل مجهودات المحاسبة جزئية وغير ممنهجة. وتتضمن الجرائم المرجو المساءلة بشأنها الاستهداف المتعمد للمستشفيات والمناطق المدنية، استخدام الأسلحة الكيمائية، الاختفاء القسري على نطاق واسع ومنهجي، القتل خارج نطاق القضاء، العنف الجنسي والجنساني، التعذيب وغيرها من الممارسات التي ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.

الدعوى المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية مرفوعة بموجب قانون الحصانات السيادية الأجنبية الفيدرالي الذي يسمح للمواطنين الأمريكيين بمقاضاة حكومات الدول الأجنبية المصنفة كـ”راعية للإرهاب“ أمام المحاكم الأمريكية، بسبب إصابة شخصية أو وفاة ناجمة عن التعذيب أو أي سلوك غير قانوني آخر.

والمدعي في القضية المذكورة هو المواطن الأمريكي السوري عبادة مزيك، والذي يقول في شكواه أن ضباط المخابرات الجوية اعتقلوه وعذبوه في مطار المزة العسكري في يناير 2012. يسعى مزيك للحصول على مبالغ تعويضية وعقابية عن الأضرار الناجمة عن ممارسات التعذيب التي ارتكبها النظام.

وتتنامى الآن أكثر من أي وقت مضى أهمية جهود مزيك وغيره لتحقيق العدالة التي يقودها الناجون في المحافل الدولية والإقليمية على خلفية موجة تطبيع العلاقات مع الأسد، والتي يبدو أنها ستكتمل دون محاسبة منتهكي الحقوق.

العدالة الغائبة

كانت -ومازالت- السمة البارزة لحكم عائلة الأسد هي افلات منتهكي حقوق الإنسان من العقاب على جرائمهم، بما في ذلك التعذيب، والإعدام بإجراءات موجزة، وأشكال أخرى من العنف المسموح به من الدولة. واعتمد النظام على قانون حالة الطوارئ لعام 1963 لتعزيز سيطرته على السوريين، مع إهمال توفير ضمانات كافية لحماية ضحايا الانتهاكات الحكومية. ووسّعت السلطات منظومتها القمعية عقب المظاهرات الشعبية في 2011 لإخماد المعارضة، حيث اعتمد النظام على أجهزة المخابرات في قمع المعارضين عبر الاعتقالات التعسفية والاحتجاز والتعذيب، مع استخدام القوة العسكرية الوحشية والقصف المتواصل على المناطق المدنية واستخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيمائية.

لدى ضحايا القمع في سوريا سبل محدودة وغير فعالة للحصول على العدالة داخل بلادهم. فالقانون لا يعاقب الجرائم الفظيعة atrocity crimes، والنظام الحكومي يفتقر إلى الضوابط والتوازنات، حيث يؤدي تغوّل السلطة التنفيذية إلى مصادرة المهام التقليدية للسلطتين القضائية والتشريعية. على سبيل المثال، تحظى عناصر الأجهزة الأمنية على الحصانة من الملاحقة القضائية بموجب المرسومين 14 و 549 لعام 1969، وهو الأمر الذي أُضفي عليه الطابع المؤسسي بموجب مراسيم لاحقة.

وبالنسبة للمحاكم، فقد أجاز قانون 61 لعام 1950 محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية، حيث يتقيد الحق في الاستعانة بمحام وتحضير الدفوع المناسبة، وحيث أيضًا لا يتم الالتفات عمليًا إلى الحق في عدم التعرض للتعذيب والاحتجاز التعسفي. ثم جاء قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 ورقم 22 لعام 2012 الذي أنشأ محكمة قضايا الإرهاب ليحكما القيد على الحق في الإجراءات القانونية الواجبة والمحاكمة العادلة.

تعمل محكمة قضايا الإرهاب خارج نطاق القضاء، حيث يُعتبر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية للمحتجزين من قبل ضباط الأجهزة الأمنية ممارسات مؤسسية، وكثيراً ما تصدر أحكام إعدام تفتقر إلى أُسس قانونية سليمة ضد المدنيين الذين تتم محاكمتهم في محاكمات يشوبها انعدام الكفاءة القانونية والمؤسسية. 

وعلى الرغم من أن مجلس الشعب يتمتع بصلاحيات سن القوانين وفقًا للمواد 55 و74 و75 من الدستور السوري، إلا أن سلطة اتخاذ القرار الواسعة وغير الخاضعة للرقابة للرئيس تتجاوز الأولويات التشريعية التي يقترحها أعضاء مجلس الشعب، كما يتسع نفوذها ليطال القضاء، وذلك دون أي مسوغ قانوني.

تصدر غالبية التشريعات في سوريا بموجب مراسيم تشريعية لا تمر عبر المحكمة الدستورية العليا. علاوة على ذلك، يُقيد القانون رقم 7 لعام 2014 قدرة المحامين على الطعن في دستورية بعض التشريعات التي تؤثر سلباً على حقوق المواطنين السوريين، كما لا يستطيع الأفراد السوريون تقديم التماس مباشر إلى المحكمة الدستورية العليا، ولا تستطيع المحاكم العادية إحالة القضايا التي تطعن في دستورية بعض القوانين مباشرة إلى المحكمة الدستورية العليا.

في الواقع، تُعتبر المحكمة الدستورية العليا أحد أجهزة السلطة التنفيذية بسبب صلاحيات التعيين الحصرية الممنوحة للرئيس. يتم اختيار القضاة بعناية من قبل السلطة التنفيذية على أساس التحالفات والولاءات السياسية. ونتيجة لذلك، يفتقد تعيين القضاة للرقابة، مما يُقصي أي احتمال لوجود قضاء سوري مستقل ومحايد قادر على تحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة.

كما أدى تغوّل السلطة التنفيذية التعسفي على أجهزة الحكومة الأخرى إلى تشوه الإطار التشريعي السوري من خلال تحصين جهات حكومية بعينها ضد المساءلة عن انتهاكات الحقوق، والإخفاق في خلق مسارات قانونية للضحايا الذين يسعون إلى العدالة عن المظالم التي يتعرضون لها على أيدي المسؤولين الحكوميين.

 وفقًا للنتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا، فشل النظام السوري مرارًا وتكرارًا في التحقيق في الجرائم التي يُتهم بارتكابها في مراكز الاحتجاز التابعة له، كما يواصل حجب المعلومات المتعلقة بالمحتجزين أو المختفين قسراً. 

يرقى سوء معاملة المعتقلين في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك استخدام ما لا يقل عن 72 وسيلة تعذيب، إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية نظراً لممارسات الدولة الواسعة والممنهجة.

وعلى الرغم من أن المادة 53 من الدستور السوري تحظر استخدام التعذيب والمادة 391 من قانون العقوبات تُجرم استخدام العنف المفرط لانتزاع الاعترافات قسرًا أثناء الاستجواب، فإن الإطار القانوني المحلي لا يُحدد أفعالاً بعينها كممارسات تعذيب، ولا يوفر ضمانات لمحاسبة المسؤولين الحكوميين المتورطين في ارتكاب جرائم التعذيب.

 وما تزال الاستثناءات التي توفر الحصانة لمسؤولي أجهزة أمن الدولة بموجب التشريعات الوطنية، بما في ذلك المادة 16 من المرسوم رقم 14 لعام 1969، والمادة 47 من المرسوم رقم 549 لعام 1969، والقانون رقم 64 لعام 2008 (توسيع نطاق الحصانة لضباط الأمن السياسي والشرطة)، توفر لهم الحماية من الملاحقة حتى اللحظة، ولم يتم الشروع في محاكمة أي جريمة تعذيب قط باعتبارها جريمة جنائية قائمة بذاتها.

قد ينظر المرء إلى إقرار قانون تجريم التعذيب في 2022 على أنه خطوة إيجابية، وإن كانت متأخرة، من جانب حكومة الأسد لتبدأ في تطبيق التزاماتها القانونية الدولية فيما يتعلق بحظر أعمال التعذيب ومحاكمة مرتكبيها دون استثناء. إلا أن الخطوة قوبلت بالتهكم كأحد حيل النظام لتصدير صورة إصلاحية تفتقر إلى أي ضمانات قانونية إجرائية أو موضوعية تحمي حقوق الضحايا في التعويض بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب (UNCAT) التي تُعد سوريا دولة طرف فيها.

ويكفي القول أنه في نفس العام الذي دخل فيه التشريع السوري المناهض للتعذيب حيز التنفيذ، وثقت جماعات حقوقية أكثر من 2200 حالة اعتقال واحتجاز تعسفي وسط هجمات عسكرية مستمرة يشنها النظام ضد المناطق المدنية. كذلك سجلت الجماعات الحقوقية في مايو الماضي 226 حالة موثقة على الأقل للاعتقالات والاحتجاز التعسفي، وهو أكبر عدد يوثق في شهر واحد خلال العام. 

نظرة على المستقبل

بعد أكثر من عقد من العزلة العالمية والإقليمية، تم الترحيب بعودة الأسد إلى جامعة الدول العربية في 19 مايو 2023. ومع ذلك، فإن أصحاب المصلحة، بما في ذلك الضحايا السوريين الذين نجحوا في دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة لإنشاء آلية دولية للتحقيق في مصير المختفين والمحتجزين قسراً في سوريا، يدركون أنه لا توجد مسارات داخلية للمساءلة، ويستمرون في نضالهم، من خلال وسائل تتجاوز الحدود الإقليمية، ضد الإفلات المستمر من العقاب على الجرائم التي يرتكبها النظام. 

على الرغم من الواقع المرير المتمثل في عدم وجود سُبل للعدالة داخل سوريا، إلا أن أول دعوى قضائية يتم رفعها في الولايات المتحدة بتهمة التعذيب ضد حكومة بشار الأسد أبصرت النور، كما يُحقق محققون فيدراليون أمريكيون أيضًا في تواطؤ كبار المسؤولين السوريين في جرائم حرب محتملة. ويُعتبر القرار القضائي الأخير الصادر عن المحكمة الجنائية في باريس، والذي يأمر بمحاكمة علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود، من ضمن الجهود الوطنية الأجنبية الأخرى الرامية إلى محاسبة أذرع النظام المسؤولة عن انتهاكات التعذيب والاحتجاز التعسفي، بالإضافة إلى عشرات القضايا المرفوعة أمام محاكم أجنبية أُخرى، والتي تقاضي نظام الأسد بدعوى ارتكاب جرائم التعذيب وانتهاكات الحقوق الفظيعة الأُخرى. 

وعلى الصعيد الحكومي، قدمت هولندا وكندا شكوى رسمية إلى محكمة العدل الدولية ضد الحكومة السورية بدعوى ارتكابها انتهاكات لا حصر لها للقانون الدولي بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. يبقى لنا أن نرى كيف ستتقاطع جهود المساءلة في المحاكم الأجنبية والدولية مع تحول سياسات الدول نحو التطبيع مع الأسد.

مروى زواي: الزميل القانوني في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط.

نُشر هذا التحليل في الأصل في العدد رقم 4 من النشرة الإخبارية لتطورات سيادة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يصدرها برنامج مؤسسة كونراد أديناور لسيادة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتعاون مع معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط TIMEP.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…