سارة حجازي.. عام على الرحيل


.here Read this article in English 

لا زلت أتذكر سارة المرحة، الشغوفة، المتحمسة، المقاتلة، البطلة، الهشة، المناضلة، الملهمة، المتمردة.. سارة صديقتي، سارة بوصلتي، سارتي.

كانت حياة سارة عادية رغم صخبها، حياة لا تلاحظها إذا رأيتها، ولكن إن أمعنت النظر لرأيت التميز، لرأيت ما رأيت، لندمت على كل لحظة لم تكن تعرف فيها سارة حجازي، الفتاة العشرينية ذات الصوت الخجول، قصيرة الشعر، الفيلسوفة، حاملة كتاب “ما وراء الخير والشر” لنيتشه، لتناقشك في أول جلسة بينكما حول تاريخ المنظومات الأخلاقية. 

مثل نيتشه كانت سارة الدوجما، ضد المسلمات الزائفة. في كل نقاش معها تشعر أن نيتشه بُعث من جديد، بوجه ملائكي، ليناقشك في مفهوم الذنب، مهاجمًا المنظومة الأخلاقية للأديان السائدة في عصره، معلنًا عبثية إلزام جميع البشر بمنظومة أخلاقية واحدة.

وبعد ثوانٍ، ترى سارة النسوية، تهاجم آراء نيتشه عن المرأة وتهاجم أسلوبه الاستفزازي، وتُخرج من جعبتها كتاب «عن المرأة والدين والأخلاق» لنوال السعداوي، مستحضرة ما قالته السعداوي «كان اهتمامي يتجه أكثر نحو إنقاذ أجساد البنات وعقولهِن، وهذا أمر طبيعي؛ لأني امرأة وطبيبة عشت بجسدي وعقلي مآسي النساء، خاصةً الفقيرات منهن». تستمر سارة في الحديث لساعات وساعات حول الفلسفة والنسوية والاشتراكية وفلسطين، وعن الحب الشاعري الذي لطالما أسرها، ساعات من الحديث دون أن تشعر بالملل للحظة. 

أتى صخب حياة سارة من عبثية الواقع، ومن إيمانها بقضاياها في مواجهة تلك العبثية ورفضها للخنوع.

** *

لم تفكر سارة كثيرًا قبل رفع علم قوس قزح في حفلة مشروع ليلى، لم تفكر في عواقب المواجهة، ببراءتها المعتادة. رفعت سارة علم قوس قزح عاليًا في حفلة فرقة مشروع ليلى، لتُظهر الدعم لمطرب الفرقة حامد سنو، ولتقول للمجتمع والعالم أجمع إن مجتمع “الميم- عين” موجود في مصر. بكل براءة واجهت المجتمع بأطيافه والنظام بأركانه، بقطعة قماش ملونة. 

تعرضت سارة لمختلف أنواع الذل، بسبب قطعة القماش تلك. أظهر ضدها المجتمع ما في باطنه من سوء وكراهية، واجتمع المختلفون على لفظها، ولم تسترح الدولة إلا بإيداعها خلف القضبان معلنة الانتصار؛ الانتصار على روح سارة.

لحظة خفة، غيرت حياتها للأبد. 

عشرة أيام عاشتها سارة حجازي في جحيم الانتظار. ترى صورها تُنشر علنًا في التلفاز مصحوبة بعبارات الكراهية والتحريض، ترى المجتمع الساكن الرافض لبراءتها، المجتمع الذي ناضلت لأجله، يهتف بكسر إرادتها وحريتها ويطلب من الأجهزة الأمنية التحرك للقضاء على هذا الوباء الخبيث. 

في أثناء الحملة ضدها، وفي انتظار القبض عليها في أي لحظة، زارتني سارة يوم 30 سبتمبر 2019، وكنت أجريت عملية جراحية منذ يومين. حكت لي بدموع عن خوفها على أمها وإخوتها الصغار في حال إلقاء القبض عليها. حاولت طمأنتها، ولكنها كانت تعلم المصير. أخبرتني أنها ستذهب غدًا لتحرر توكيلًا قانونيًّا باسمي، لأنها تريدني أن أكون محاميها عندما يُقبض عليها. نظرنا بعضنا إلى بعض، نعلم ما سيأتي.

ألقت قوات الأمن القبض على سارة من منزلها فجر يوم 2 أكتوبر 2019. في ليلتها الأولى تم الاعتداء عليها بالضرب والتحرش الجنسي من السجينات الأخريات، بإيعاز من رئيس مباحث قسم السيدة زينب. بعد ساعات نُقلت سارة إلى نيابة أمن الدولة العليا لبدء التحقيق معها بتهم “التحريض على الفسق ونشر الفجور، والانضمام إلى جماعة أُسست على خلاف أحكام القانون والدستور تهدف إلى تكدير السلم العام والسلام الاجتماعي”.

من؟ سارة حجازي؟ سارة حجازي فعلت كل هذا؟ وأمام نيابة أمن الدولة العليا المنوطة بقضايا الإرهاب والأمن القومي؟ سارة حجازي خطر على الأمن القومي؟ يا لهشاشة الأمن القومي.

** *

تعودت الفصل بين مشاعري الخاصة وعملي لسنوات في المحاماة، كي أقدم كل ما لديَّ لمصلحة المتهم الذي أدافع عنه، ولكن هذه المرة المتهمة هي سارة حجازي، صديقتي وأختي وابنتي وأمي كما كنا نقول بعضنا لبعض. لم أستطِع تمالك نفسي، بكيت حين رأيتها في النيابة وبيدها الأصفاد. ترجيت فرد الأمن الممسك بها أن يفك عنها الأصفاد، لا يهرب أحد من داخل نيابة أمن الدولة العليا، وافق على مضض. هرولت سارة ناحيتي قافزة في حضني باكية، فحضنتها. كنت أعلم أن فعلًا كهذا قد يعرضني للتحقيق كمتهم، ولكن لم أستطع منعها، ولم أكن لأريد ذلك، فسارة ليست متهمة، المجتمع هو المتهم، النظام هو المتهم.

استمر التحقيق مع سارة لما يقرب من تسع ساعات، استطاعت فيها أن ترد بصلابة على أسئلة المحقق كلها دون أن تدين نفسها أو تشي بأحد.

واجهت المحقق بجهله، شرحت له بالأدلة العلمية أن المثلية ليست مرضًا نفسيًّا، ولا جريمة. اقتنع المحقق ولكن أشار بإصبعه لأعلى، بمعنى أن قرار حبسها يأتي من رؤسائه، وممن يعلوهم.

أودعت سارة بسجن القناطر للنساء، وبدأ فصل جديد من العذاب. ذاقت سارة التعذيب بالكهرباء، والضرب، منعوها من حقها في التريض، منعوها من الحديث مع أحد. لم ترد سارة أن تشعر بالوحدة، فبدأت في الرسم على الجدران كما تفعل زميلاتها في الزنزانة، منعوها أيضًا. 

زرتها في السجن عدة مرات ولم أنفرد بها مرة واحدة، في كل مرة يجلس بيننا فرد أمن ليسمع ويدون كل ما نقوله حتى لو كان الطمأنينة على أحوال والدتها، معللًا ذلك بأنه مضطر إلى أن ينقل كل كلمة إلى مأمور السجن كي ينقلها لجهاز الأمن الوطني.

على مدار3 أشهر تعرضت سارة لمختلف صور التعذيب النفسي والجسدي.

 آمنت سارة بالمشتركات الإنسانية، المشترك بين القتيل والقاتل، بين السجين والسجان، بينها وبين من نبذوها، بين روحها وجلادها. لم تنزع قط صفة الإنسانية عن أحد حتى من آذوها، وليس هذا بمتلازمة ستوكهولم، ولكن بعقيدة الحب التي آمنت بها، لأنها سارة حجازي، القلب الذي لم يعرف يومًا معنى الكراهية.

اعتادت سارة أن تكتب لي يوميًّا رسالة من محبسها، وتبدأها بـ “يا رفيق”. كتبت سارة في إحدى رسائلها:

مرحبًا يا رفيق 

إذا كانت هناك أشياء تعلمتها خلال تجربة السجن، فهما شيئان؛

أولهما عدم الثقة المطلقة بالأشخاص، وثانيهما عدم التعميم. 

وسأتحدث عن الثانية. لا يجب أن أعمم بأن جميع من يعمل في جهاز الشرطة أوغاد!

ليسوا جميعهم أوغادًا يا رفيق، فجميع أمناء الشرطة (الحرس) الذين تعاملت معهم خلال نقلي من السجن إلى نيابة أمن الدولة يملكون قلبًا طيبًا! نعم، لا يملكون عقلًا متفتحًا، ولكن على الأقل ليسوا أوغادًا كرؤسائهم من الضباط!

وتمامًا كرئيس السجن الذي يحاول جاهدًا أن يشبههم في الحقارة والنذالة! لكنه يفشل.

رئيس السجن الذي تفضحه عيناه بأنه رجل [طيب] يحمل قلبًا وإنسانيته تتعرى تمامًا أمامي من خلال النظر إليه، نعم يا رفيق فأنا أستطيع أن أرى ما يدور في القلوب! آه عفوًالست الله أبدًا!!

لا شيء.. كل ما في الأمر أنني أبحث عن الجمال وسط القبح، وها أنا رأيت بعض الطيبين وسط مؤسسة الداخلية (الشرطة) فطوبى لهم، وسلام عليهم آمنين من كل ذرة شر“.

رغم كل ما فعلوه بها، آثرت سارة أن ترى ما في القلوب وأن تقنع نفسها بطيبة قلوب البعض، كي لا تفقد إيمانها بالإنسانية.”

** *

خلال العام الماضي، قرأت كل ما كُتب عن سارة، ولكن ستظل الجملة الأصدق هي ما كتبتها نوارة نجم “كانت بخير، وكانت جميلة، وكانت بريئة، وكانت ذكية، وكانت لطيفة وودودة وخدومة وجدعة، أعطبوها بأمراضهم وقالوا مريضة، ثم قتلوها بقسوتهم وقالوا منتحرة”. في مقالها المنشور على موقع المنصة بعنوان “لا يا سارة .. هم أشرار

وردة مثل سارة، لمَ تنتحر؟ 

هم أعطبوها.. جميعهم، المجتمع والنظام.

لشهور وسنوات تناوبوا عليها، كراهية وعنف وسجن وتعذيب ثم كراهية وكراهية وكراهية، حتى بعدما سافرت إلى منفاها. 

وكما دونت سارة بتاريخ 2 أغسطس 2017 على مدونتها الشخصية: “الانتحار جريمة قتل قام بها أناسٌ لن يدانوا في يوم ما! مجتمع كامل شارك في الجريمة”.

لم تمت سارة بفعل الانتحار. 

أرادت سارة أن تعيش، ولكنها قُتلت.. بسكين بارد.. لسنوات.

فقط أرادت أن تنهي هذا الألم فاختارت بعناد وقت نهايتها، في شهر الفخر.

عاشت في صخب، ورحلت في صخب، لتكتب صفحة جديدة في مواجهة القمع والظلم والرجعية، ولتدعم برحيلها مجتمع الميم- عين كما بحياتها.

: اقرأ التالي

هل قام المجتمع الدولي بما يلزم لإيقاف الحرب الدائرة في السودان؟ الجواب بسيط، للأسف. بالطبع لا،…

يلقي عمر طالب نظرة معمّقة على الظروف السياسية والتكييفات القانونية التي أدت إلى إسقاط تهم الفساد…

يعاني "نزلاء" السجون الجديدة في مصر من عنف خفي وانتهاكات منهجية، بينما تقول الدولة أنها طورت…